محمد حموية.. اسم منسيّ في القصة السورية!
ندركُ أن متعةَ المعرفة التي ستصاحبك وأنت تقرأ دراسةً أو بحثاً مؤصلاً مدعماً وموثقاً بالإحالات والمراجع، وبلغة ثرّة في مفرداتها ومعانيها ودلالاتها، ربما تكفي لتعرف أنك أمام نصٍّ إبداعي موازٍ، يدفعك قسراً للبحث عن التجربة المنوّه بها، أو هوية ذاك الاسم ومكانته في المشهد السردي أو الشعري العربي، ولاسيما أنه لم يحظَ قبل ذلك بما يستحقه من الإشارة إليه وإظهاره للقراء والباحثين، فكيف إذا أضيفت إليها لذّة الاكتشاف، وهي باعتقادنا من أهم وظائف النقد؟
هذه المتعة ومعها الاكتشاف ستلمسهما وأنت تقلّب كتاب “محمد حموية.. اسم منسي في القصة السورية” الذي تنهلُ بشغفٍ من فيض المعلومات وكمّ التفاصيل الواردة فيه، على الرغم من محدودية عدد صفحاته، فقط لأنه يجسّد قيمة الوفاء، ويعيدُ الاعتبار لقامة أدبية سورية تناساها النقد، وتغافل عنها مؤرّخو الأدب ردحاً من الزمن، بل تناولتها الدراسات الأكاديمية على نحو خجول أو متأخر!
الكتابُ الصادر عن دار كنانة بدمشق ينضمّ إلى سلسلة الكتب والدراسات الأدبية والأبحاث النقدية التي أنجزها د. نضال الصالح للتأريخ لفن القصة القصيرة، محلياً وعربياً، والتعريف بأهم رموزها وتجاربها واتجاهاتها، ما يمكّن عدّه إضافة مهمّة جديرة بالتقدير والانتباه، تستكمل ما قدّمه في كتبه: “القصّة القصيرة في سورية: قصّ التسعينيات”، و”قبل فوات الحكاية: دراسات في القصة العربية القصيرة”، و”حكاية القارئ: دراسات في القصة السورية”.. وسواها، والتي باتت مراجع ومصادر حقيقية لمن يهمّه الوقوف على تطور فن القصة القصيرة ومآلاته في سورية والوطن العربي.
في هذا الكتاب يعود الأديب والناقد د. نضال الصالح أستاذ النقد الأدبيّ الحديث في جامعتي حلب ودمشق لإحياء والإضاءة على قامة أدبية منسيّة هو الأديب السوري د. محمد حموية الذي عرفه القراء من خلال خمسة نصوص قصصية فقط، نُشرت في النصف الأول من عقد الستينيات، أربعة منها في مجلة الآداب، هي: “الربيع الحزين”، “الطين والصدى”، “أسنان جديدة”، و”قال الله ليكن نور”، وواحد في مجلة “حضارة الإسلام” هو “أجنحة للسماء”، إضافة إلى نصين غير مكتملين هما “اليد القوية”، و”باب أنطاكية”، أوردهما د. الصالح في الكتاب نفسه، حيث يؤكد أن زهد حموية بالشهرة والنجومية، وتقديره أنه ما من جدوى للكتابة في عالمٍ محكومٍ بالمال، يعدّان من الأسباب التي ساهمت في غيابه وعدم نشر نتاجه كاملاً. ويشير د. الصالح إلى أن هذا الأديب لو منحَ الفنّ القصصي ما يليق به من وقته، متابعةً في الكتابة والنشر، لكان أحد أبرز أعلام هذا الفن في النصف الثاني من القرن العشرين، بل لتمكّن بإبداعه من كبح تقدّم مَن هم أقل موهبة منه إلى الصف الأول من كتّاب القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث.
وعن طبيعة هذا النتاج وأثره، يرى د. الصالح أن مجمل قصص محمد حموية ينتمي إلى تجربة عقد الستينيات بامتياز، الذي شهدَ تنازعَ تيارات فكرية وأدبية على نحو يكاد يكون خاصاً به من القرن العشرين، من الماركسية إلى القومية إلى الوجودية.. ومن الأنفاس الأخيرة للرومانسية إلى الواقعية إلى الواقعية الاشتراكية فالواقعية السحرية.. ثم إلى ذلك الحراك الفكري والأدبي الذي اتّسم به ذلك العقد. كما يشير إلى أن هذا النتاج لا يكتفي بتعبيره عن مؤرقات جيل الستينيات وأسئلته فحسب، بل يتجاوزه إلى تعبيره أيضاً عن كتابة قصصية يمكن وصفها، بانتسابها المطلق إلى نفسها، وتميّزها عن مجمل القصّ السوري آنذاك على مستويين: انحياز مبدعها الواضح إلى البيئة التي ينتمي إليها من جهة، وتقديمه نماذج إنسانية تكاد تكون استثنائية في التجربة القصصية السورية.
ولعلّ أبرز ما يميّز بناء النصوص الخمسة، التي درسها د. الصالح في كتابه، استهلالات القصّ وخواتيمها، اللتين غالباً ما تحرران أفعال القصّ من هيمنة الحكائي على الفني، وتجهران بثقافة واضحة لدى القاص بالمغامرات الأخيرة لفن القصة القصيرة آنذاك، أي الستينيات، كما أن أبرز ما يميّز كلتيهما صلتهما بالفضاء المكاني الأكثر تعبيراً عن مقاصد القصّ ودلالاته، الغرب حيث نهر الفرات في نص “الربيع الحزين”، والدار الطينية الحقيرة بتعبير القاص في “الطين والصدى”، وحقل الذرة في “أسنان جديدة”، وغرفة لؤي في “وقال الله ليكن نور”، والطريق المؤدية إلى المسجد في “أجنحة السماء”.
إن ما أنجزهُ د. نضال الصالح في كتابه “محمد حموية.. اسم منسيّ في القصة السورية” يكتسبُ أهميته من قيمة الوفاء التي يعمّمها لقامة أدبية حالت ظروف ذاتية وموضوعية دون أن تتبوأ مكانتها المستحقة، وتكون علامة من علامات القصة القصيرة في سورية، وفي الوقت نفسه من تحقيبه لفترة زمنية كان حموية أحد أبرز تجلياتها الحداثية فناً وموضوعاً.
يُذكر أن الأديب محمد حموية ولد في مدينة جرابلس سنة 1934، وأكمل تعليمه في المرحلتين الإعدادية والثانوية في مدينة حلب، وحصل سنة 1960 على الشهادة الثانوية، ثم على الإجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة حلب سنة 1964، فدبلوم التربية من جامعة دمشق سنة 1965، ثم أوفد إلى جامعة طهران، وحصل منها سنة 1973 على شهادة الدكتوراه عن أطروحته “أبو العلاء المعري وناصر خسرو.. دراسة مقارنة”، وفي السنة نفسها عُيّن مدرساً في قسم اللغة العربية بجامعة حلب وبقي فيه حتى وفاته في 19/ 1/ 2003.
عمر محمد جمعة