أبو العلاء المعري والفكر الفلسفي
محمد راتب الحلاق
أبو العلاء المعري ذروة شامخة من ذرى الشعر والأدب والفكر العربي في العصور كافة، وسأحاول في هذه الزاوية أن أشير إلى ملامح الفكر الفلسفي عنده، ولا آبه كثيراً بمن اعترض على منحه لقب الفيلسوف، بحجة أنه لم يكتب كتاباً فلسفياً واحداً، فسقراط، كبير فلاسفة الإغريق، لم يكتب هو الآخر أي كتاب، في حين صاغ أبو العلاء أفكاره شعراً ونثراً، ومع ذلك قلت عنه: إنه يفكر بطريقة الفلاسفة ولم أقل إنه فيلسوف. وقد قيل في تعريف الفلسفة: إنها حب الحكمة أي حب الحقيقة. وقيل إنها البحث عن العام والكلي في هذا الذي يبدو وكأنه خاص وجزئي. وقيل إنها الانتقاد العقلاني المستمر لشؤون الإنسان والعالم. وقيل إنها البحث في المشكلات الميتافيزيقية الكبرى والمزمنة. وأزعم بأن أبا العلاء قد تناول في شعره ذلك كله، لذلك قلت: إنه كان يفكر بطريقة الفلاسفة. ويعد أبو العلاء من أهم العقلانيين العرب، وقد اعتمد مبدأ الشك، ورفض اليقين المطلق، وبنى آراءه على الوقائع المادية والتاريخية.
والقارئ المتمعن في شعر أبي العلاء ونثره لا يمكن أن يجد عنده فكرة مطردة، باستثناء مفهوم الشك، أما ما عدا ذلك فإنه إنما يقدم أفكاراً سرعان ما يكتب ما يناقضها، ولكنه ليس التناقض المنطقي كما يبدو للقارئ المتسرع، فهو يحاول أن يعرض الآراء جميعاً، فكثير من كلامه حكاية عن الآخرين أو ابن لحظته، فهو يعرض الآراء دون أن تكون جميعها ممثلة له شخصياً.
يتهكم المعري على المتدينين الذين يؤدون الطقوس بصورة برانية لا تلامس جوانيتهم، لأن الطقوس لا تغني عن المرء شيئاً إن لم تردعه عن ظلم الآخرين أو عن أكل حقوقهم، ولا يتهكم على أصول الدين الصحيحة. أما تشكيكه فيتناول ما أدخله بعضهم في الأديان للتحكم بالعامة، وهذا ما نراه بأم العين. فأبو العلاء فيما أزعم مؤمن ممتلئ بالإيمان العميق لكن بأسلوبه الخاص، فهو يؤمن بوحدة الخالق ورسالة نبيه محمد بن عبد الله، أما إن تهكم فإنما يتهكم على فذلكات علماء الكلام، وتمحلات بعض الفقهاء، وكان كثير الانتقاد لسلوك المتعصبين للمذاهب، ما دفع بعض الغلاة لاتهامه بما اتهموه به. وقد نفت الدكتورة بنت الشاطئ (عائشة عبد الرحمن) عن أبي العلاء تهمة الكفر والزندقة في مقدمة تحقيقها لرسالة الغفران، التي أعدتها بإشراف الدكتور طه حسين، وتعد هذه المقدمة دراسة قيمة عن أبي العلاء وصفته فيها بالمؤمن عميق الإيمان. أما ما جاء في الرسالة من وصف للملذات الحسية فإنما كان تعويضاً عن الحرمان الذي عاشه كاتب الرسالة في الحياة الدنيا. ومن العبث ما يحاوله بعض الدارسين حين يثبتون عليه أفكاراً ما أثبتها هو على نفسه.
ما كان بإمكان شخص بذكاء أبي العلاء، رهين المحبسين، أو بالأحرى المحابس المتعددة، إلا أن يلجأ إلى التفكير العميق، فيرى ببصيرته ما عجز المبصرون عن رؤيته بعيونهم التي في رؤوسهم، في شؤون الدين والدنيا واللغة والشعر والفكر، وأن يأتي بما لم يستطعه الأوائل، كما افتخر مرة.
وقد قاده تفكيره العميق إلى الشعور بالاغتراب في المجالات كافة: فكان في اغتراب نفسي عمن حوله بسبب فقدان البصر، واغتراب ثقافي ومعرفي لأنه ابتعد عن الناس، واغتراب اجتماعي منذ أن لزم بيته واكتفى بزيارة المقربين منه، واغتراب اقتصادي بسبب فقره وقلة حظه من الرزق.