ثقافةصحيفة البعث

السيرة الذاتية في الأدب بين الموضوعية و الانتقائية

شكّلت السيرة الذاتية ظاهرة سردية قديمة واكبت بدايات الرواية كجنس أدبي مستجد في الثقافة العربية، لكنها ظلت رهينة تجارب محدودة تحكمها جملة من العوامل والمقومات التي قيّدت تطورها، منها أهمية ارتباط تجربة الكاتب الحياتية بوقائع وتحولات تاريخية اجتماعية وسياسية بارزة، بحيث يشكّل غنى هذه التجربة مادة دسمة للقارئ، ووجود الرغبة والجرأة لدى الكاتب في وضع حياته الشخصية بكل تفاصيلها ضمن متناول القارئ بتجرد وموضوعية، إذ يجمع عدد من النقاد على أن التجرد من الأهواء والانتقائية ضرورة هامة لجعل نص السيرة ذا مضمون جماهيري موضوعي وهادف، إلى جانب امتلاك ناصية اللغة، وملكة السرد الحكائي المشوّق اللتين تتيحان للكاتب إعادة بناء عالمه الحياتي بأسلوب أدبي يعادل فيه بين الاستقراء الروائي، والرسم الخارجي للواقع بمراحله المتعاقبة.

وكان لعميد الأدب العربي طه حسين في رواية “الأيام” أنموذج يحتذى في إعادة ترتيب حياته ضمن قالب درامي جريء ومشوّق، يشير فيه إلى الصراع القائم بين الإنسان وبيئته، معتمداً على تفاصيل حياته من الطفولة إلى مراحل تالية متدرجة، حيث يتوقف عند منعطفات هامة شكّلت فيها مواقفه الجريئة ثورة على المسلمات الدينية والاجتماعية، وقد ساهمت مقدرته اللغوية الفذة في بناء نص يماهي بين السرد التاريخي التوثيقي، والتصوير الفني الدرامي عالي المستوى.

كما تفرد المغربي محمد شكري في ثلاثية الخبز الحافي الذاتية (الخبز الحافي، زمن الأخطاء، وجوه) بجرأته المباشرة في فضح خفايا القاع الاجتماعي الغارق بالبؤس والجهل والفقر والعنف، دون أن يشعر بالحرج في تناول جوانب حياتية، يحرص الكثير من الكتّاب على تغييبها، أو تجميل شيء من ملامحها، لكن شكري لم يجد غضاضة في الانطلاق منها ليعبّر عن موقفه من النظم الاجتماعية والسياسية المهينة للإنسان، ولعل هذا ما جعلها مع أيام طه حسين ذات رواج لافت لدى القارئ العربي أكثر من غيرها من السّير الكثيرة التي عرفها الأدب العربي، أمثال “سبعون” ميخائيل نعيمة، وأنا “العقاد”، و”سيرة المنتهى” لواسيني الأعرج لاحقاً، وغيرها.

ولعل السيرة الذاتية الصادرة مؤخراً للكاتبة المغربية مليكة أوفقير “السجينة” المشتركة مع الكاتبة الفرنسية ميشيل فيتوس تعطي زخماً جديداً للسيرة الذاتية سواء بجرأة طرح القضايا السياسية والاجتماعية، أو من حيث لغة السرد البليغة والمتماسكة، والإيقاع الحيوي المشوّق الذي يعود الفضل في متانته إلى المترجمة للعربية غادة موسى الحسيني التي عرّبت السيرة ومنحتها شرعية أدبية مكتملة الملامح.

والتطرق لسيرة “السجينة” لا يعني وضعها في مصاف أيام طه حسين، أو خبز محمد شكري، بل لأنها تنتمي إلى تجربة متقدمة للسيرة الذاتية من جهة، ولبراعة السرد الذي يسلّط الضوء على حوادث تاريخية سياسية مغفلة عن القارئ العربي، لاسيما في الشرق من جهة أخرى.

مليكة أوفقير هي ابنة الجنرال محمد أوفقير الذي قاد انقلاباً فاشلاً على الملك المغربي السابق الحسن الثاني عام ١٩٧٢، وأدى إلى إعدام الجنرال وسجن عائلته نحو عشرين عاماً، حيث قرر الملك إنزال عقوبة مشددة بحق زوجته وأبنائه الخمسة الذين اقتيدوا إلى سجون نائية في الصحراء ذاقوا فيها ويلات السجن وقسوة عتمته، بعد أن كانوا من علية المجتمع المقربين جداً من العائلة المالكة.

تبدأ مليكة سيرتها من الطفولة عندما تبناها الملك محمد الخامس وهي في الخامسة من عمرها، انتزعها من أبويها لتعيش مع ابنته القريبة منها عمرا، وعندما يتوفَّى يتولى ولده الحسن الثاني مهمة تربيتها مع عائلته، لتمضي في قصور الملوك إحدى عشرة سنة من حياتها تعرّفت فيها على أسلوب الحياة الباذخة، والتقت أبرز شخصيات السياسة والمجتمع والفن المغربية والغربية.

في هذه المرحلة تتوقف مليكة عند حياة البذخ والمجون التي تكتنف حياة الملوك، الشبيهة بأسلوب حياة السلاطين العثمانيين، من حيث الاهتمام بالقصور والجواري، والابتعاد عن هموم الناس وقضاياهم، فاهتمام الملك ينصب على “الحريم” وطريقة لباسهن وزينتهن، تقول: كان الملك يحرص على لباسها فيقول: “الكعب العالي جيد لأنه سيجبرك على تحريك ركبتيك، وهذا تمرين جيد، وسيمنحك قداً رشيقاً وناعماً، سيجعلك تبدين كامرأة”.

ومن خلال حديثها عن العائلة المالكة تؤكد أن أكثر ما كان يشغل بالهم هو رضى الغرب عليهم، وهذا ما تؤكد عليه في الجزء الثاني، بعد الهروب الناجح لها مع إخوتها من السجن، ومحاولاتهم طلب اللجوء السياسي في إحدى السفارات الغربية، وإيصال قضية سجنهم وإخفائهم إلى الصحافة الأوروبية، لعلمها مدى التأثير الكبير الذي يحدثه هكذا خبر على علاقات الملك بالغرب.

رغم الفضائحية والإثارة التي ترتكز عليها السيرة، لكنها لا تخلو من الانتقائية التي تعكس ميول الكاتبة الغربية البحتة، حيث تغيب عن السيرة جل القضايا والشخصيات العربية باستثناء الرئيس الجزائري هواري بومدين، والمصري جمال عبد الناصر اللذين يمران بشكل عابر ضمن سياق تفرضه سيرة حياتها في القصر، لكنها لا تخفي موقفها من التباينات بين بلادها والعالم الآخر من خلال طرح تساؤلاتها حول الفساد، والحريات، وحقوق الإنسان، كرد فعل انتقامي على سنوات سجنها، رغم محاولاتها تبرئة الملك الحالي من مأساة عائلتها التي كان أكبر أفرادها لا يتجاوز الثامنة عشرة من عمره عندما غيبوا في عتمة السجون، وهذا لا ينفي غنى السيرة التي ينتهي السرد فيها عام ١٩٩٧ بالوقائع والمعلومات الهامة عن التوزع الأنثروبولوجي للأعراق والقوميات في المغرب، ولغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتقوقعهم ضمن تلك الانقسامات.

آصف إبراهيم