دراساتصحيفة البعث

انتصار تموز 2006.. توازن رعب و ترسيخ ثقافة المقاومة

د. معن منيف سليمان

شنّت “إسرائيل” حرباً عدائية مسعورة على لبنان في تموز عام 2006، دمّرت خلالها بصواريخها وطائراتها وبوارجها الحربية ومدفعيتها قرى الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية في بيروت، وكان حجم الدمار الذي خلّفته آلة الحرب الإسرائيلية يفوق حجم وآثار ما خلّفته القنابل النووية التي ألقتها القوات الأمريكية على مدينتي “ناغازاكي” و”هيروشيما” اليابانيتين، إذ سوّيت بيوت الجنوب بالأرض، وأزالت آلة الحرب الصهيونية عشرات الأبنية في الضاحية الجنوبية عن الوجود، وشرّدت مليون لبناني، وقتلت وجرحت الآلاف من المدنيين اللبنانيين، وحاصرت لبنان براً وبحراً وجواً، وسجلت “إسرائيل” رقماً قياسياً جديداً في ارتكاب المجازر، لكنها لم تستطع هزيمة المقاومة التي خرجت منتصرة وقدّمت دروساً وعبراً، فأقامت توازن الرعب مع العدو الصهيوني، ورسّخت ثقافة المقاومة في مواجهة ثقافة الاستسلام.

كان الهدف المعلن من وراء هذه الحرب إطلاق الأسرى الإسرائيليين وعدم الرضوخ لشروط المقاومة، بعدما استطاعت المقاومة الباسلة أسر جنديين إسرائيليين في عملية سُمّيت “الوعد الصادق”، وحاولت الدعاية الإسرائيلية الإيحاء بأن المقاومة بفعلها هذا هي التي بدأت المعركة، ولكن قراءة الأحداث من بدايتها إلى نهايتها تؤكّد أن الحرب الإسرائيلية على لبنان كانت معدّة منذ أشهر، ولم تعد الأسباب الحقيقية التي دفعت “إسرائيل” إلى خوض حربها ضدّ لبنان، أمراً غامضاً أو سرياً، فـ”إسرائيل” لم تتوقف عن الحديث عنها منذ اليوم الأول لاندلاع المعارك، وتتلخص هذه الأسباب بالآتي:

  • إخفاق القوى المناهضة للمقاومة على الساحة اللبنانية في تمرير مشروع نزع سلاح المقاومة.
  • الرغبة الإسرائيلية بالانتقام والثأر لهزيمة عام 2000، بعد خروجها المذل من جنوبي لبنان.
  • إخراج لبنان من دائرة الصراع العربي- الإسرائيلي من خلال إبرام اتفاق جديد على غرار اتفاق السابع عشر من أيار الإذعاني.
  • إيجاد شرق أوسط جديد يخضع للإرادة الأمريكية والإسرائيلية، وهو مشروع بشّرت به وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك “كونداليزا رايس” عندما وصفت مآسي الحرب بأنها آلام مخاض لولادة مشروع شرق أوسط جديد.
  • كسر روح المقاومة وتعميم ثقافة الهزيمة والاستسلام بترسيخ مفهوم استحالة النصر على الجيش الإسرائيلي الذي كما يدّعي العدو “لا يقهر”.

بدأت الحرب تحت غطاء سياسي ودعم عسكري أوروبي وأمريكي وتواطؤ عربي مفضوح، وعلى الرغم من ذلك أخفق العدو الصهيوني على مدى ثلاثة وثلاثين يوماً في تحقيق أي انتصار سوى قصف القرى وتدمير البيوت والأبنية والجسور والطرقات وارتكاب المجازر التي كان أبشعها في بلدتي “قانا” و”مروحين”، والتي تحوّلت إلى وصمة عار عليه وعامل ضغط دولي لوقف العدوان.

وبينما أخفق العدو في تحقيق نجاحات ملحوظة، نجحت المقاومة الباسلة في مفاجأة العدو في الجبهة والعمق، ولم تمكنه من إحداث أيّ خرق، بل إنها أربكت قواته وزعزعتها، وتعرّضت نخبة الجيش الإسرائيلي المعروفة بلواء “غولاني” للصدمة، وتعدّ المفاجأة الرئيسية للمقاومة هي في نجاحها بتدمير دبابة الجيل الرابع، دبابة “الميركافا” التي تزعم “إسرائيل” أنها الأقوى في العالم “أنت حيّ ما دمت في داخلها”. كما تمكنت المقاومة من إعطاب البارجة الحربية “ساعر” التي تعدّ درّة تاج البحرية الإسرائيلية، في نقطة تحوّل عسكرية مهمّة باعتبار أن قوات غير نظامية بسيطة تستعمل أسلحة معقدة تكنولوجياً.

ونجحت المقاومة في جرّ الجيش الإسرائيلي لخطتها القتالية في أرض المعركة من خلال إخراج سلاح الجو وتحييده من مسرح العمليات الحربية بعد إسقاط عدّة مروحيات للعدو، ولأول مرّة في تاريخ الحروب العربية- الإسرائيلية تعجز “إسرائيل” عن حسم المعركة بواسطة سلاح الجو. وتمكّنت المقاومة أيضاً من قصف المستوطنات والأهداف العسكرية الإسرائيلية في الجبهة والعمق حتى وصلت صواريخها إلى أبعد من حيفا، فضربت مطارات حربية في عمق شمالي فلسطين المحتلة مثل مطار “روشبينا” العسكري وتجمع الرادارات في الشمال، وفي سفوح جبل الشيخ، وضربت تجمعاً لقطاعات الجيش الإسرائيلي العسكرية في كفار جلعادي وغيرها من نقاط التجمع طيلة ثلاثة وثلاثين يوماً، وهذا المقياس الأدق لإخفاق سلاح الجو الإسرائيلي.

لقد نجحت المقاومة في حرب تموز في فرض معادلة جديدة وصفها الإرهابي “شيمون بيريز” بأنها حرب وجود يتوقف عليها مصير “إسرائيل”، وبرهن مقاتلو المقاومة عن إمكانية انتصار الإنسان على الآلة، وتفوّق الإرادة القتالية على التكنولوجيا العسكرية المحصّنة بالمدرعات والمحمية بالطائرات والمدعومة بالبوارج، إلى درجة جعلت الإرهابي “شيمون بيريز” يقترح في مناقشة للتقصير الإسرائيلي إمكان استخدام الإنسان الآلي في المواجهات المقبلة مع رجال المقاومة.

وإضافة إلى إخفاق القيادة العسكرية الإسرائيلية في كسب الحرب، فقد أخفقت القيادة السياسية في إدارتها، ولم تحقّق أي هدف من أهداف الحرب على لبنان في تموز، حيث كانت أهداف الحرب حسب تقرير “فينوغراد” غير واقعية التحقيق، ومبالغاً فيها، فالأهداف المعلنة للحرب كانت تتضمن سحق المقاومة عسكرياً واجتماعياً وسياسياً، ونزع سلاحها، واستعادة الأسيرين الإسرائيليين، ثم تقلّصت الأهداف إلى مجرّد القبول بوقف النار المتبادل!.

لقد أخفق الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب في حماية المستوطنات الإسرائيلية من القصف الصاروخي والمدفعي الذي كانت تردّ به المقاومة على العدوان، لا بل إنه عجز عن حماية نفسه من ذلك القصف، تبع ذلك إخفاق في أجهزة الأمن الإسرائيلية في رصد تحركات المقاومة، وفيما يتعلّق بامتلاك المقاومة لمنظومة الصواريخ بعيدة المدى، وبذلك فقدت “إسرائيل” قوة الردع وبتر ذراعها، كما أخفقت الإنزالات الإسرائيلية في صور وبعلبك ووادي مريمين.

وعليه فإن المقاومة نجحت في إقامة توازن رعب مع العدو الصهيوني، فبينما تمكنت “إسرائيل” من إلحاق التدمير في البنية التحتية اللبنانية، تمكنت المقاومة عبر الصواريخ من إصابة المستوطنات الإسرائيلية في العمق، حيث قدّرت الخسائر الإسرائيلية بملايين الدولارات.

وإذا كان اللبنانيون قد نزحوا عن قراهم وبلداتهم في الجنوب، فقد نزح أكثر من نصف مليون إسرائيلي عن مدن وقرى وبلدات الشمال الفلسطيني، وهاجر العديد من الإسرائيليين إلى مواطنهم الأصلية، وفرّت بعض الرساميل المحلية والأجنبية خارج “إسرائيل”. وإذا كانت “إسرائيل” قد أخفقت في تحقيق أهداف حربها المدمّرة والمفتوحة كما سمّتها، فإن ذلك يعدّ انتصاراً “إلهياً” للمقاومة كما سمّاه سيد المقاومة السيد حسن نصر اللّه، لأن الهزيمة تعني حسب التعريف العملي العسكري ألا يتمكّن المهاجم من تنفيذ الهدف الذي وضعه، كما هي الحال مع الجيش الإسرائيلي، في حين أن المقاومة انتصرت لأن تعريف النصر بالنسبة إلى المدافع هو أن ينجح في منع المهاجم من تحقيق هدفه، وهذا ما حصل مع المقاومة.

ومن هنا فإن انتصار المقاومة في تموز كان انتصاراً حقيقياً انتصر فيه نهج على نهج ومفهوم على مفهوم، نهج المقاومة على نهج التسويات، ومفهوم الصمود على مفهوم الاستسلام، وتأكدت إمكانية الانتصار وذلك من خلال صياغة إستراتيجية جديدة تفرض اعتماد طرق جديدة غير تقليدية في مواجهة الجيش الإسرائيلي المعتمد على تزويد الولايات المتحدة له بأحدث أدوات الفتك والدمار.

وتقتضي هذه الإستراتيجية تعميم ثقافة مقاومة شاملة، عسكرية وسياسية واجتماعية، تخلق الإرادة الفاعلة، والقدرة المحسوبة والوعي الموضوعي لطبيعة الصراع وآليات إدارته، عبر القراءة الموضوعية والتأمل الواعي للدروس التي رافقت الانتصار، وحينما لا يستطيع العدو أن يهزم الوعي الوطني والقومي والوعي المقاوم بكل ما يمتلك من جبروت وقوة عسكرية وإعلامية وسياسية، يتحوّل هذا الإخفاق إلى انتصار لثقافة المقاومة، وثقافة الاستقلال التي تصنع المنعة والقوة للشعوب.