التحايل على الواقع.. “حرفة” السوريين التي تأصلت في الحرب وصقلها الحصار!
دمشق – ريم ربيع
ليس “التحايل” بدعة جديدة، ولا أسلوباً طارئاً على المجتمع السوري، فهو متأصل لدى الأفراد والمؤسّسات، حيث تحوّل إلى ثقافة ينتهجها الجميع، ونحن -كما يقال- “أصحاب حيلة” خنقتها الظروف المعيشية القاسية، إلا أنها مازالت تنازع وتقاوم؛ وإن كان الحصار الحالي هو الأقسى غير أنه ليس الأول، فمنذ السبعينيات وسورية محاصرة ومعاقبة على جميع المستويات، وبتنا معتادين، بل “خبراء” في أساليب التحايل والالتفاف على العقوبات، إذ أكسبتنا التجربة الخبرة الكافية للتعامل مع أي ظرف اقتصادي، كأفراد وعائلات وشركات ومؤسسات عامة وخاصة بلا استثناء، في ظل عدد غير متناهٍ من الصفعات التي نتلقاها كل يوم، وعلى مختلف المستويات أيضاً، وتضطرنا لابتكار مخارج لم يسبق لنا التفكير بها لمواجهة المآزق اليومية، سواء كانت اقتصادية –وهي في المقدمة- أو حتى سلوكية واجتماعية وثقافية ومهنية، غير أن تلك الخبرة مازالت ترضخ تحت وطأة الرتابة والفساد والمحسوبيات التي تكلّف الكثير قبل الوصول إلى حل قابل للتطبيق.
إمكانات مغيبة
يفضّل المسؤولون في أحاديثهم العامة -لا الخاصة- استخدام مصطلح “الالتفاف على العقوبات”، بدل التحايل، فهو أخفّ وقعاً على الآذان، إلا أن المصطلحين يفضيان إلى النتيجة ذاتها؛ ولطالما كان هذا الالتفاف مُسعفاً في تأمين المواد الأساسية والقطع التبديلية للمنشآت الضخمة والحفاظ على التوريدات النفطية، بطريقة أو بأخرى؛ أما ما لم تستطع الحكومة إليه سبيلاً فقد عملت على تدبره بالإمكانات المتاحة، والتي “فجأة” أظهرت أن لدينا من الخبرات ما هو أهل للإبداع والابتكار. أما إن كانت تلك الخبرات غائبة، أم مُغيّبة، لسنواتٍ طوال، فهذا سؤال آخر!!، إذ تمكنت الكوادر المحلية وبإمكانات متواضعة، خلال الحصار، من تحقيق إنجازات تفوق كل ما يتغنّى به أصحاب المناصب ليل نهار، دون جدوى؛ ومن خلال إعادة تدوير بعض المنتجات، وتطوير المعدات القديمة، تمكن العمال من إصلاح مئات الآلات وخطوط الإنتاج في المصانع، وحتى محطات توليد الكهرباء التي كانت ستكلف مئات ملايين الدولارات مقابل صيانتها من شركات أجنبية.
أولويات
كثيرة هي الأساليب الممكنة لمناورة الحصار، غير أنها بالمجمل ستبقى هامشية إن لم تتوّج بمكافحة حقيقية -لا استعراضية- للفساد المتجذّر في مختلف المجالات، يليه في المرتبة الأولى العودة لرفع شعار الاعتماد على الذات، وهو -برأي الخبير المصرفي عامر شهدا- ممكن من خلال استثمار الموارد المحلية كافة، وعلى مستوى القطاعات. وهنا يتربع دعم وتشجيع الزراعة في مقدمة الموارد، حيث يمكن استثمار علاقاتنا مع الدول الصديقة لفتح أسواق وتصدير المنتجات الزراعية إليها لتوفير موارد قطع أجنبي، إضافة إلى إحداث صندوق إقراض ودعم زراعي صناعي تشترك فيه اتحادات الغرف المعنية والمصارف، علماً أن دراسة هذا الاقتراح متوفرة، ويمكن مناقشتها، وفقاً لشهدا، الذي يؤكد أن ضمان دوران العجلة الاقتصادية يكون من خلال رفع الأجور بما يتناغم والتضخم في الأسعار، وبالتالي رفع الطلب بالأسواق وزيادة الاستهلاك.
عودة إلى التاريخ
خلال حصار الثمانينيات، وبشهادة من عايش المرحلة، تمكّنت سورية من تجاوز العقوبات عبر التركيز على تحقيق الأمن والاكتفاء الذاتي الزراعي أولاً. وشهدت تلك المرحلة، وما تلاها، ارتقاء سورية إلى مستويات متقدمة جداً في الأمن الغذائي بقينا نحصد ثمارها لسنوات، قبل أن يُهمل الجانب الزراعي لصالح تأمين الكماليات ومظاهر الرخاء الزائف الذي كلّف الاقتصاد الكثير؛ وتمّ التوجه في تلك المرحلة إلى دعم الشركات الصغيرة ومتناهية الصغر، والاعتماد على تجار غير معروفين لتأمين استيراد السلع الأساسية -وهو أمر يطبق حالياً- إلى جانب المجتمع الأهلي وبعض الجمعيات التي “نفدت بريشها” من العقوبات، لتكون رافداً آخر لإتمام المعاملات التجارية الخارجية؛ وفيما تركز في ذلك الوقت الاعتماد على الدول المجاورة لكسر الحصار، نفتقد اليوم هذه الميزة في ظل دعم بعض هذه الدول للحصار والإرهاب كتركيا، أو نشر الفوضى والتضييق الاقتصادي على دول أخرى، كلبنان والعراق اللذين كانا يمثلان السوق الرئيسية للمنتجات السورية.
استقطاب الكفاءات
على الحكومة إعادة دراسة كافة القرارات الاقتصادية الصادرة عنها، يقول شهدا، مردفاً أن معظم هذه القرارات أثرت بشكل مباشر على الوضع الاقتصادي وعلى القوة الشرائية لليرة السورية، فيفترض اليوم الاهتمام بالكادر المحلي وطروحاته للحصول على أفكار تساعد بالنهوض والتخفيف من آثار العقوبات؛ ومن الممكن، في هذا السياق، إحداث مجلس منفصل عن رئاسة الوزراء يضمّ خبرات وكفاءات مالية ونقدية وصناعية وزراعية.
أما على مستوى تحسين قيمة الليرة والحدّ من استنزاف القطع، فيقترح شهدا إحداث سوق للقطع الأجنبي ضمن مصرف سورية المركزي، ويتمّ بيع وشراء القطع داخل هذه السوق بإشراف ورقابة المركزي، مع العمل على تحديد سعر افتتاح وسعر إغلاق، إلى جانب تنظيم تعهدات إعادة القطع بالنسبة للتصدير وربط الاستيراد بالتصدير لإعفاء المركزي من تمويل الاستيراد، فضلاً عن ضرورة التوسّع بالإقراض لدعم الإنتاج الصناعي ورفد الأسواق بمنتجات وطنية بديلة، والاستثمار باتجاه الصناعات التحويلية التي تعتمد في موادها الأولية على منتجات محلية، وتشجيع المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر لرفد الأسواق بالمنتجات.