“المحظورات في الكتابة الأدبية” في ندوة …
لطالما كُتب عن المحظور في الأدب والفن والثقافة، وتساءل الأدباء والفنانون والنقاد هل الخوض في المحظور في الثقافة هو نوع من الترف الفكري وبحث عن شهرة وتميز أم هو ضرورة ملحة لعلاج هنا أو لإضاءة هناك، ولماذا يكون المحظور صاحب الشأن الأعلى في النقاش حول نص ما تم التطرق له أكثر من باقي مفاصل النص وتحليلنا له؟.
“المحظورات في الكتابة الأدبية” كان عنوان الندوة التي أقامها فرع دمشق لاتحاد الكتاب العرب، وأدارها الأديب نصر محسن.
العقل الحر
البداية كانت مع الكاتب والإعلامي عماد نداف الذي يرى أن المجتمع هو الذي يحدد المحظورات، وأضاف: أجمل النصوص هي التي غاب عنها المحظور، فهل المحظور ضروري، ومشكلة خيري الذهبي مع اتحاد الكتاب العرب خير دليل، حيث اتهم د.علي عقلة عرسان بقمع الأدب في سورية، ولكن حين وقف د.علي وعرض الجملة التي أعاقت ظهور الرواية على الحضور الجميع وافقه على ذلك.
آليات العقل تقول بأن خلاياه خلقت حرة، ولكن عندما يعيد العقل صياغة هذه المعلومات سيجد هناك قواعد (الضمير، الجنس، الأخلاق، البنية الأدبية، السياسية وغيرها….) الإبداع الحقيقي لا يتم إلاَّ عند إزاحة هذه المحظورات، المجتمع هو الذي يحدد ذلك، وفي بلادنا ثمة إشكالية والإشكالية تعود إلى فهم دور المثقف والكاتب، فهل ينبغي أن نخاف منهما؟! لا، ولكن الأثر الاجتماعي عندما يؤدي إلى فوضى يمكن تلافي ما يثير المشكلة.
في المسرح
أما الأديب محمد الحفري فلم يكتب طوال حياته سوى عن الحب وكان ملاحقاً لأنه من عشاق هذا الوطن، وعن المحظورات في الكتابة الأدبية قال:
محيط الكاتب من المعارف والأصدقاء والأقارب قد يكون أشد ضراوة من السلطة السياسية والعقلية الأمنية والدينية في التعامل مع الكتابة وصاحبها. أذكر أن نصاً مسرحياً قد رفض من جهة ما، لأكتشف أن الرفض كان من أجل تسمية “رجل الدين” مع أن هذه التسمية ليست محصورة في ديانة واحدة، والكتابة الحقيقية تجاور المحظورات وتخترقها ولن يتبدى جمالها من دون مسها، لكن شرط أن يكون ذلك عميقاً لمعالجة ظاهرة ما، لأن الكتابة أساساً هي فعل الحرية والانعتاق من القيود، والمحظورات في الكتابة معروفة للجميع وتتمثل في ثالوثها السياسي والديني والجنسي، ولن أتحدث عن المحظور في الرواية والقصة وغيرها من الأجناس الأدبية، لكن الممنوع أو المحظور في هذه الأجناس هو ذاته الممنوع في المسرح الذي قد يتجاوز في الكتابة تلك المحظورات، عن طريق مشهده الإخباري، أو اللجوء إلى الذين اخترقوا هذا التابو على الصعد كافة، أو اللجوء إلى التراث، أو عن طريق الحكاية أحياناً، لكن الحفري يتقصد أن يقول: إن ما أكتبه ومهما كان لبوسه تاريخياً أو فنتازياً أو عجائبياً فهو يعني ما يحدث الآن، وهذا سبب ديمومة أغلب نصوصه وزوال القليل منها فقط. مقابل تلك الكتابة المسرحية نقول: إن العرض المسرحي وما يجسد على الخشبة هو الأكثر جرأة على تجاوز الممنوع، لأنه يستطيع الاستعانة بالصوت واللون والروي والعزف بما يوحي بوجود حالة جنسية، أو حالة قتل وإقصاء سياسي، أو سجن وتعذيب، وغير ذلك من الأشياء التي لا يسمح بها الرقيب في حالة الكتابة.
الممنوع المنطقي في المسرح وغيره هو ما يحرض على القتل والدم والفتنة الطائفية، وما يمس سلامة البلاد ووحدتها وغير ذلك ينبغي أن يكون مسموحاً.
ثلاثية المحظور
ويظن معظم الناس أن لديهم فكرة جيدة عما يؤمنون به، وفي هذا المجال قال محمد عيسى: لو تمعنا بهذه الثلاثية: “الجنس الدين السياسة” لوجدنا أن الجنس هو الأقدم، وهو الغاية النهائية للمجتمعات المتدينة، فالجنس يوظَّف من قبل الأديان السماوية كمكافأة لمن يطيع الله، ولكنها تضع له الشروط القاسية دنيوياً، إن هذا المحرم كان سببه معصية آدم لأوامر الله، وهذه المعصية كانت السبب في إبداع البشر واستمرار وجودهم من خلال الجنس، ألا يعني هذا أن الإبداع أساسه الخروج على التعاليم أو المحرمات؟ ويسوقنا الموضوع إلى مفهوم علاقة السياسة ودورها في ترويض الجمهور على تبني هذا التحريم والدفاع عنه كقيمة كيانية محددة، وهنا تصبح السياسة كمحصلة ركناً ثالثاً في التحريم. الجنس والدين مقدسان وربط السياسة بهما يجعل من الراعي مقدساً أيضاً، لأنه بنظر الجمهور المروّض يحافظ على مقدساتهم، ومن مصلحة الراعي في مجتمعاتنا، الحفاظ على هذه المقدسات. وللحافظ على التابوات لابد من سن قوانين لها، وجعل من هو قيِّم عليها، بل والأخطر، هو جعل الأدباء أنفسهم يقومون بوظيفة الحفاظ على هذه المحرمات الثلاث وصيانتها، والتي هي أساساً ضدهم؟ وبهذا الثالوث المحرم تصبح لدينا ثقافة مقدسة لا يجوز الخروج عنها، فترتفع أصوات المفكرين والروائيين والشعراء والإعلاميين والسياسيين والفنانين واللغويين، والمجتمع كله كجوقة واحدة تدعو للتمسك بالأصول والقيم، هذه القيم التي تشكل المقولة السحرية والجوفاء لما يسمى بـ”الأخلاق”.
في مجتمع كهذا يصبح الرقيب مؤتمتاً، وكذلك الأديب رقيب نفسه منه وفيه، وهذه التقنية المسلوكة عبر تاريخنا السماوي جعلتنا في حالة استقرار واطمئنان إلى يوم الدين، وهذا ما يطلق عليه من وجهة نظر سياسية بـ استتباب الأمن والاستقرار، بل إن هذا المقدس يتسع ويتمدد في مجتمعاتنا.
جمان بركات