يبدو أنني قد أجبت!؟
د. نهلة عيسى
طالب من طلابي، خفيف الروح، جميل المحيا، دائم الحركة، حشري، فضولي كما يجب أن يكون الإعلامي، فاجأني أول أمس بالقول: دكتورة أريد أن أسألك سؤالا، لكن عديني أنك لن تغضبي مني! ضحكت، وقلت له بلهجة مسرحية: يا غلام، اسأل ولك الأمان! فابتسم، وقال: لماذا تبدين دائماً قوية، واثقة، تعرفين الكثير من الأشياء؟ أجبته بعد تفكير: هل أبدو حقاً كذلك؟ رد: نعم ودائماً.. قلت: أنا حقاً لا أملك جواباً قاطعاً، فقد يكون السبب أنني دائمة الشعور بالانتماء إلى مجموعة من المحبين في بيتي وعملي ومحيطي، بل في كل الوطن، والانتماء بحد ذاته قوة، وسبب في الإحساس بالثقة.
قاطع كلامي: هل تعرفين أن البعض يقولون عنك: رهيبة، غريبة، عنيدة، غضوبة، متهورة، جسورة؟ فقلت له: كل ما يقولونه صحيح، هل أكمل أنا لك اللائحة؟ نعم، أنا رهيبة، لأنه كلما ارتفع في وجهي سور أمط جسدي كما القطة، وأقفز لأعلو السور، وأؤمن بحياة واحدة، وأبواب لا حصر لها، للدخول إليها والخروج منها، وأحرص على اختيار أبوابي، وأكره المفاتيح، والضرب، والطرح، وأعشق القسمة، لأنني أؤمن أن الحياة أقصر من أن نقضيها في الجمع!
غريبة!! ما العيب، وما الخطيئة؟ أنا أنثى يوم ولدت قامت قيامة جدتي، لأني كنت ثالثة ثلاث من الإناث، فحملني أبي بين ذراعيه، ووهبني للسماء، نكاية بالجدة، فباتت سكنى الريح تروق لي، أسند ساقي على غيمة، وفوقي سماء، وتحتي سماء، أتمدد كمن يريد أن يغفو، ويكفيني ما يعد به الحلم، على الأقل في الحلم، لا خاسر سوى الموت، وأنا بغبطة.. وربما بخبث من يتودد إلى سمائين، أقع في غرام الشيء وضده، والطريف أني أرى الجمال في الشيء وضده، فما العيب، والرب خالق الأضداد، لكي نفهم أن الضد اكتمال!؟
عنيدة؟! أعترفُ! أنا كائن فيه من كل أحد: فضول حواء، وظن آدم أنه الأسمى، وغيرة إبليس من الشريك، وحرب قابيل وهابيل، وغرابهما، وتلك المرأة التي تنازعا عليها، غيّب النسيان اسمها، ولم تغب الغواية، ترتدي في كل حين وجهاً يلائم ما نحب أن نرى، فنجري صارخين: هذه هي الحياة! ثم عندما يقترب الموت نتهم الشياطين، فيكون بعضنا يعني ما يقول، وآخرون يغشون في التهجئة، ويعولون على رب رحيم، أما أنا فعيبي أني أجيد القراءة، وأقبل أن في جلد كل واحد منا إلى جانب هابيل.. قابيل، الملائكة ليسوا بشراً، وحده الإنسان، بعض من الرب!
غضوبة؟! أنا كتلة من الغضب! أنا بنت بلد لم تُرفع الحرب عنها مذ وُجدت.. آلاف باعوني وباعوا البلد، وعمروا مقبرة لنا، مزاراً بتعرفة دخول، وبسطة على بابه، فيها لكل ضرس لون ولكل لون سعر، ووقفوا على الباب يطالبون بالعزاء، ويحسب لهم أنهم لم يضعوا سعراً للعزاء، وتركوا البوم على راحته ينعق في الوطن، متشائماً من البشر، وليس من إبليس!
متهورة؟! لما لا؟ أنا بنت أخطائي، الزير أبو ليلى المهلهل بعض جيناتي، أربعون عاماً من الحرب قضاها رد فعل على صراخ “اليمامة”: وأبتاه!! لا جساس عاد، ولا الناقة المعقورة غَفرت، ولا ثأر اليمامة ارتوى غليله.. لم يبق من حرب البسوس سوى الحماقة نتوارثها جيلاً خلف جيل، وعاماً فعامَ. من قال أن الحماقة داء لا دواء له، لم يكن شاعراً، بل كان طبيباً!
جسورة؟! أظنني جسورة، فقد حنثت عشرات المرات موعدي مع الموت، أظنني الصندوق الأسود في هذا الوطن الحزين، صوتي شريط تسجيل لمن رحلوا، أنا صوت ما قالوا وما فعلوا، ووجهي بلا قناع، يحتقر.. خيم عزاء، كلها أقنعة، يطوّب فيها الثعلب حملاً، والحمار حصاناً، وأشباه الأميين عباقرة، والخونة أيقونات وفاء وطني، وأنا مثل وطني، ما أنا عليه.. أنزف من الداخل، ولكني لا أقع، فهل تراني على سؤالك أجبت؟ بسرعة أقترب مني وعانقني، وفي لحظة تحول من ابني إلى أبي، وعرفت أنني يبدو على سؤاله قد أجبت.