قواعد عسكرية
د. نضال الصالح
ربّما قلّة من العرب ممّن يعرف “توماس مولاي”، وعلى الأغلب كثرة منهم لم تسمع باسمه، ولا تعرف شيئاً عنه، وفي الحالين ثمّة ما يعني أنّ العرب لا يقرؤون، ولو فعلوا، فلا بدّ أنهم سيعرفون أنّ هذا الـ”توماس” لم يكن “مهندس سياسة التعليم الإنكليزية للشعوب المستعمَرة” أيّام ما كانت تُسمّى “بريطانيا العظمى” فحسب، بل، أيضاً، “مهندس” ما يمكن الاصطلاح عليه بسياسة: “الإبادة بالثقافة”، أي قتل الآخر، فرداً أو مجتمعاً أو أمّةً، بالمعنى المجازي للقتل، من خلال الثقافة وعبرها، ومن أهمّ أطروحاته فيما يعني تلك السياسة قوله: “لا أظنّ أبداً أننا سنقهر هذا البلد (الهند) ما لم نكسر عظام عموده الفقري التي هي لغته، وثقافته، وتراثه الروحي”.
من اللغة إلى الثقافة إلى التراث الروحي تلك هي الخطوات التي رأى “مولاي” أنّها الخطوات المرتَبة منطقياً للإجهاز على هذا الشعب أو ذاك ممّن يستهدفهم الاستعمار، بل هي القوّة المدمّرة له، لأنّها، اللغة والثقافة والتراث الروحي، هي ما يصوغ الهويّة الوطنية والقومية لأيّ شعب، وما يميزه من سواه من الشعوب الأخرى.
لعقود طويلة، بل لما يزيد على قرن، ولما قبل ذلك بغير قرن، كانت هذه الأمة، العربية، في قلب المحرقة من المحاولات التي استهدفت هويّتها، ومن أمثلة ذلك ما بدا إرادات محمومة لدى سلاطين بني عثمان، لأربعة قرون، لفرض اللغة التركية لغة رسمية في مختلف أجزاء الجغرافية التي سيطر الاحتلال العثماني عليها، ثمّ على جعل الثقافة العربية هامشاً في سياسات التعليم العثماني، وعلى إبادة كلّ ما يعني التراث الروحي للعرب.
وشئنا نعترف، أو ندفن رؤوسنا في الرمال، تمكّن الاحتلال العثماني، ومن ثمّ المستعمرون الأوروبيون، من تصديع غير مكوّن من مكوّنات الهوية الدالّة على العروبة والعرب، ولم يكن سبيلهم إلى ذلك ما فعلوه هم بأيديهم، بل، أيضاً، ما دفعوا غير قليل من العرب بأنفسهم إلى التمكين له، ومن المؤسف، والمفجع، أنّ غير قليل من أولئك ممّن ينتمي إلى حقل الثقافة والفكر والأدب، كان المعول الأكثر طيشاً وجنوناً في تحقيق ما كان الاستعماريون يطمحون إلى تحقيقه، وثمّة من القرائن ما يضيق به غير مجلّد في هذا المجال.
ومن تلك القرائن الدعوات التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين لاستخدام الحروف اللاتينية في الكتابة العربية، والنزعات القومية الضيّقة، كالفينيقية والفرعونية، ونبذ علامات الإعراب بتسكين أواخر الكلمات، والدعوة إلى تيسير النحو العربيّ، وإلى استخدام العامية في الكتابة.
ومنها، بل من أشدّها شراسة وفتكاً ووحشية بآن ما يمكن وصفه بالقتل طوعاً، أو بإرادة القاتل القتيل، حيث يسارع المستهدَف (بفتح الدال) بنفسه إلى تنفيذ إرادة المستهدِف (بكسر الدال)، كأنْ يمكّن صانع القرار في هذه المؤسسة المعنية باللغة، أو الثقافة، أو التراث الروحي، للأنصاف، والظلال، والأشباه، من هذا الفعل أو ذاك ممّا يعني العمود الفقريّ للهويّة، وإلى الحدّ الذي يبدو هؤلاء معه أشبه بقواعد عسكرية متقدمة للقوى المدمّرة للهويات الوطنية والقومية.