ثقافةصحيفة البعث

رحلة البحث عن اللوح الأزرق

الدليل القاطع على وجود الله هو في البحث عنه والسفر إليه، هذه الرحلة الخارجية هي رحلة داخلية، رحلة يتحرك فيها كل شخص ويحاول من خلالها أن يمعن النظر في داخله ليستطيع منه رؤية الخارج، وهذا يلخص معنى “أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر”.

في هذه الرحلة المعرفية أراد الكاتب الفرنسي الجنسية مصري الولادة والهوى، جيلبيرت سينويه، أن يأخذ القارئ في مغامرة لاكتشاف الذات وسبر غور أعماق التاريخ والإنسان وأفعاله متطرقاً إلى الدين والإيمان من خلال روايته “اللوح الأزرق”.

تجري الأحداث قبل سقوط غرناطة بسنوات قليلة في وقت كانت محاكم التفتيش في أوج نشاطها، والجو العام مفعم بالعداء لجميع الأديان عدا المسيحية، الدولة القوية تتجه نحو القضاء على جميع الديانات باسم توحيد إسبانيا تحت راية كاثوليكية واحدة، بينما يجتمع حبر يهودي وشيخ مسلم وراهب مسيحي لحل لغز وضعه لهم عالم يهودي عرفهم جميعاً في أوقات وظروف مختلفة، وذلك للوصول إلى كتاب مقدس.

في هذه الرواية يجتمع كم من المعلومات حول الديانات السماوية الثلاث بالإضافة إلى معلومات متفرقة حول الأندلس، حبكة الرواية ذكية جداً، لقاءاتهم بشخصيات تاريخية، وحواراتهم معهم، كذلك مرورهم على أماكن وأحداث تاريخية أضفت على الرواية هالة درامية مقدسة، وكأنك تقرأ كتاباً تاريخياً أو كأن الثلاثة أشخاص حقيقيون، رغم ذلك يوجد غموض وتعقيد في كل شخصية يجعلك تفكر فيها وتحاول الاقتراب منها أكثر فأكثر.

تبدأ رحلة البحث عن اللوح الأزرق بعدما يتم حرق ابن برول، بائع اللوحات الزيتية، الذي كتب رسائل لثلاثة أشخاص تحمل شفرة للوصول إلى اللوح الأزرق “عبارة عن لوح من الحجارة الكريمة بطول ذراع ونصف ذراع وعرض ذراع”. ولكي يتمكنوا من الوصول يجب أن يجتمعوا رغم اختلافهم العقائدي، رجل مسلم عربي يدعى “ابن سراج” واليهودي الحبر العجوز عزرا، والمسيحي القس فارغاس، الشاب الصغير الملتجئ إلى الكنيسة ظناً منه بأنه سيتخلص من حب امرأة، ثم تتبعهم امرأة تدعى مانويلا، صديقة الملكة، أرسلتها محاكم التفتيش كجاسوس بعدما وشى بابن سراج خادمه سليمان، لكن مانويلا امرأة مثقفة كرهت المحارق، واعتقدت أن الأمر تعدٍ على الإنسانية، عجبت من سعة اطلاعهم وعمق معرفتهم حتى هربت منهم معلنةً أنها لا تستطيع خداعهم وأنهم لا يقومون بشيء قد يضر إسبانيا.

تتسع عينا الحبر صاموئيل عزرا، وهو يقرأ رسالة صديقه اليهودي، ابن برول، يخبره فيها بسر اللوح الأزرق، ويطلب منه أن يبحث عنه ويحتفظ به لأنه إرث من عهد الأنبياء، ولكي يجده عليه أن يفك شيفرة مجموعة من الرسائل توصل إلى مكان وجود اللوح الأزرق.. هكذا يفتتح ابن برول أول رسالة مشفرة من الرسائل التي أرسلها للحبر عزرا، الذي يشتد غضبه وسخطه حين يكتشف أن رسائله ناقصة وتتمتها كان ابن برول قد أرسلها لصديق ثانٍ له، وهو الشيخ ابن سراج الذي لن يقل سخطه مقارنة مع الحبر عزرا، فلأول مرة سيحدث أن يجتمع المسلم واليهودي ويتصاحبا في رحلة طويلة مليئة بالمخاطر بحثاً عن لوح أزرق من المفترض أن يخبرهما ماهي الديانة الصحيحة، كيف يعقل أن يفعل ابن برول أمراً كهذا بهما؟! سيتخاصمان ويتشاجران ولكنهما مضطران لتحمل بعضهما البعض في سبيل الوصول للوح الأزرق، سيقول الشيخ ابن سراج: أحمد الله يا عزرا أن ابن برول قد اختار مسلماً ليشاركك الرحلة، لو أنه اختار مسيحياً لكنت الآن في مأزق وما أدراهما أن المأزق لا يوجد؟

على بعد فراسخ طويلة وفي دار عبادة مسيحية هناك راهب مسيحي شاب في انتظارهما محملاً بتتمة الرسائل المشفرة التي أرسلها له ابن برول ليصير المأزق حقيقة واقعة، يهودي ومسيحي ومسلم، كل متعصب لدينه وحاقد على الآخر، عليهم أن يتحملوا بعضهم أكثر وأكثر حتى نهاية الرحلة.

سيبدأ عزرا بفك شيفرة أول رسالة انطلاقاً من العهد القديم، وسيعتقد القارئ أن الكاتب جيلبرت هو يهودي لا شك في ذلك مادام يحفظ العهد القديم ويفسره بهذا الإتقان والبراعة على لسان اليهودي عزرا، لكن سرعان ما سيتردد القارئ في إطلاق هذا الحكم عندما يلبس جيلبرت شخصية الشيخ ابن سراج ليبدأ بفك باقي الشفرات انطلاقاً من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، كيف يعقل أن يكون ملماً بالدين الإسلامي بهذا الشكل الرهيب؟! وستواصل القراءة إلى حين ينسلخ من جلد الشيخ ابن سراج ويبدله بذاك المتعلق بالراهب فارغاس الذي سيبدأ بفك الشفرات المتبقية اعتماداً على الإنجيل.

سيأخذ سينويه القارئ في مغامرة يتضامن فيها مع الثلاثة محاولاً أن يحل الشيفرات، ويذلل الصعوبات التي تواجههم مثل إيجاد علاج سريع وفعال لأصابع عزرا التي تؤلمه كثيراً، وسيقوم بتضميد الجرح في يد الشيخ ابن سراج، وسيواسي الراهب فارغاس وهو يتحدث عن الألم الذي يعتصر قلبه، وفي كل لحظة سيكون القارئ على رهبة ويتمنى أن يظل الثلاثة بخير وفي مأمن من جنود محاكم التفتيش التي  تبحث عنهم بعد أن وصلتهم أخبار لوح أزرق يخفي سراً عجيباً، وأنها لا بد مؤامرة لإسقاط المملكة الإسبانية وإنقاذ ما تبقى من الأندلس، الذي أوشك على الزوال.

بعد رحلة طويلة تعرضوا فيها للمخاطر وصلوا إلى اللوح الأزرق، بدا الثلاثة مختلفين في عقائدهم ثم اتفقوا سائلين أنفسهم: “مهما كانت قضيتنا سامية في نظرنا ومهما كان هدفنا نبيلاً وإيماننا قوياً، فهل نملك الحق في إجبار الآخرين على اعتناق معتقداتنا”؟

الرواية تدعو إلى احترام الأديان، يقول سينويه: “استخفافك بكل دين غير دينك يجعل كلامك خالياً من كل مصداقية”. لكل منا لوح أزرق قد يكون فكرة، كتاباً، أو شخصاً سيخبرك هذا اللوح يوماً أن إيمانك حقيقي ويزيل الشكوك من قلبك، فلا تتوقف يوماً عن البحث عنه.

عُلا أحمد