صدمات متتالية وأسئلة معلّقة!
ريناس إبراهيم
يتّسم عالم اليوم بالتعقيد والتداخل أفقياً وعرضياً، فما حدث في الصين يؤثر في كل بقاع العالم (تفشي فيروس كورونا)، وما حدث في واشنطن يلقى صداه في أرجاء أوروبا وغيرها (الاحتجاجات إثر مقتل جورج فلويد)، وبينما يتّسع العالم وتنفتح مدارك الإنسان، تتجه الأحداث بإطار عكسي ليغدو العالم قرية صغيرة، بفعل العولمة والتطور التكنولوجي والتسارع الذي أشار إليه عالم المستقبليات إلفن توفلر منذ سبعينيات القرن الماضي، وحذّر من احتمال عدم قدرة الأفراد والمجتمعات على مواكبة هذا التسارع وتقبله، مطلقاً على هذا الاحتمال اسم “صدمة المستقبل”. ويبدو أن الصدمات تتوالى لتثبط تحركاتنا وتجعلنا في تخبط من أمرنا، وليس أدل على ذلك من التطورات التي يشهدها فيروس كورونا، فلا أحد يمكنه التنبؤ بمصير هذا الفيروس، سريع التطور، هل سيختفي كما اختفى سارس وميرس؟! هل سيتحول إلى جائحة موسمية مع جهود العلماء في دول مختلفة للتوصل إلى لقاح؟! أم إنه سيواصل الانتشار والفتك بالأرواح؟! كلّها أسئلة معلّقة لن يغيّر في إجاباتها سوى جهود العلماء و”لطف القدر”!
لكن يمكن ملاحظة سلوك الكثير من الدول والأنظمة لتوظيف هذه الجائحة سياسياً، ومحاولة استغلالها أيّما استغلال، والأنموذج الأوضح على هذا الاستغلال يتجلى في رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب.. فالأول يسعى لاستعادة “أمجاد” السلطنة العثمانية الآفلة ويحابي دول مختلفة لبناء علاقات معها وكسب تأييدها على الساحة الدولية، والثاني يحاول توظيف الأزمة في دعم حملته الانتخابية الرئاسية، فيما الأدلة واضحة على سوء إدارته وتعامله مع تفشي الوباء.
وفيما وصفته مواقع إلكترونية بـ “عسكرة في الظلام”، يستغلّ أردوغان انشغال العالم بمواجهة تفشي كورونا، ليواصل تجنيد عناصره المرتزقة الإرهابيين ونقلهم إلى ليبيا لنشر الخراب والفوضى وسرقة مقدرات الشعب الليبي وثرواته النفطية، ويصبّ بطشه على كل من يحاول الحديث عن انتهاكاته أو خسائره. ومؤخراً زحفت هذه “العسكرة” لتدخل الخلاف الحدودي بين أذربيجان وأرمينيا، وأيضاً القارة السمراء لتنهش روحها، ما معناه أن أردوغان يبحث عن كل نقاط الصراع أو الخلاف في العالم لنشر إرهابييه أينما حلّ لتحقيق مصالحه.
كما تصدّرت المسرحية الأردوغانية أخبار الصحافة حين أرسل طائرات المساعدات إلى الولايات المتحدة الأمريكية وذيّلها برسالة “مُلهِمة”: (هناك الكثير من الشموس بعد الظلمة)، وكان يقصد: “إن أمله في كسب الدعم الأمريكي لم ينقطع وها هي الفرصة قد سنحت”، في سيناريو واضح لاستغلال المساعدات “الإنسانية” وتوظيفها في مخطّطه التوسعي.
على المقلب الآخر، لم يجد ترامب سلاحاً يشهره في مواجهة كورونا ويصدع به رؤوس الأمريكيين سوى اتّباع أساليب الدعاية والاستعراض بدءاً بمهاجمة الصين، واتهامها بأنها صنّعت الفيروس ونشرته! وتمادى في وقاحته حتى أطلق على الوباء اسم “فيروس الصين”، في مخالفة لقوانين منظمة الصحة العالمية التي تنصّ على تجنب إطلاق المواقع الجغرافية أو الأعراق.. على الأمراض والأوبئة، إلى مهاجمة الإعلام وادّعاء الحرص على حياة الأمريكيين، وليس انتهاءً بالترويج لنفسه على أنه قدم تضحيات بصفته رجلاً غنياً عندما قرر الترشح للرئاسة!
وكغيره من الأحداث، لم يَسلَم تفشي فيروس كورونا من “منشار التأطير” وانتقائية السياسات الإعلامية لمختلف الوسائل، المحلية والدولية، فتجتهد دول كثيرة في مهاجمة سياسات وإجراءات دول أخرى وتحاول شيطنة أدوارها وجهودها في مكافحة الفيروس، في حين ترفع وتثمّن جهود دول أخرى لمجرد كونها دولاً صديقة، وقد تكون الجهود واقعية أو لا تكون! وتتجه وسائل إعلامية أخرى إلى إعطاء مسألة تفشي الفيروس جانباً سياسياً أكثر منه صحيّ، باستضافة رجال سياسة، وليس أطباء!
من هذه النقطة يمكن ملاحظة ما هو أكثر أهمية: الأوزان التي تقيمها الدول للجائحة، أو كيف تُرجِمت سياسات الدول لمواجهة كورونا على شكل ميزانيات وأموال؟ عمدت مختلف الدول إلى زيادة الحزم المخصصة لقطاع الصحة من ميزانياتها، على سبيل المثال خصَّصت الولايات المتحدة حزمة بقيمة 2 تريليون دولار، أي 10% من ميزانيتها لمواجهة الوباء، فهل سيكون هذا التغير في تقدير الميزانيات دائماً؟ وهل ستتجه الدول إلى تخفيض تسلّحها وإنفاقها العسكري لشراء الأسلحة التقليدية ليتحول سباق التسلح العسكري إلى سباق لاكتساب أسلحة جديدة قد يكون العلم أبرزها؟ ولا سيّما مع عودة حديث الهجمات والحروب البيولوجية مع تفشي فيروس كورونا!