مظفر النواب.. كائن الحزن العاري
أن تكون منتمياً لوطنٍ مدمّى، سليل حضارات عريقة “بابل، وسومر، بلاد الرافدين دجلة والفرات”، ومنفيّاً عنه دوماً، تحمله في حقيبة قلبك وروحك، تحلّق به عالياً كغيمة شاردة، أو تواكبُ خببَه الرّخي كظبية أنهكها الصيّادون مطاردة وقنصاً. أن تبتلّ كلّ صباحٍ برذاذ هذه الغيمة، تُمطِرك بقبلها المالحة. وتتأمّل عيون ظبيتك الحبيبة ترميك بسهام لحظها الحارق، يعني أن تكون جراحُك فاغرةً دوماً، عن حزنها النّبيل ومستحمّة حدّ الأرق بكلمات شاعر الحزن العاري مظفّر النّواب. الذي يلخّص علاقته الوجيعة بوطنه العراق قائلاً: (ما أظنّ أرضاً رويت بالدّم والشّمس كأرض بلادي، ما أظنّ حزناً كحزن الناس فيها، ولكنّها بلادي، لا أبكي من القلب، ولا أضحك من القلب، ولا أموت من القلب إلّا فيها).
في ديوانه الثاني “وتريات ليلية” رفع النواب راية الثورة عالياً مدافعاً عن أمل الجماهير في الخبز والحرية وعن تغيير قيم المجتمع البالية إلى الأجمل، لكن الواقع الظالم وسلطة المتجبّرين كانت أقوى من أحلامه، لذلك نراه يثور بكلّ جوارحه، محتشداً بكلّ هموم الجماهير العربيّة موجّهاً خطابه لظلمة التاريخ وديكتاتورييه. لم يستثنِ أحداً بقوله: (فهذا الوطن الممتدّ من البحر إلى البحر، سجون متلاصقة، سجّان يمسك سجّان). عاش مطارداً بالسجون والمنافي مدافعاً عن قضايا ثوريّة وإنسانيّة عديدة، مع ثوّار أرتيريا، وفي مناطق الثورة في ظفار وساحل عمان ومع ثوّار فلسطين يقول: (تعرّضت للموت مراراً، ولكنّني كنت في كلّ مرّة واثقاً، ثقة داخلية، بأنّني سأجتاز الوضع، الذي أنا فيه، ومررتُ فيه وخرجت منه).
اشتهرتْ تسمية “النّواب” بشاعر الغضب الجماهيري أو شاعر “الكاسيت” وهذه حالة نادرة في الشعر. حيث “الكاسيت” كما ألفناه مخزناً للألحان والأغاني لا للأداء الشعري، لكن شاعرنا الثّائر، أعطاه وظيفةً جديدة بشعره وأدائه الممسرَح الذي اعتمد تصاعدَ النّبرات الإيقاعيّة وخفوتها وتناغم الصّوت وتعابير اليد والجسد، خالقاً بذلك جوّاً درامياً مشحوناً بالعواطف والصّور الشعريّة والمشاعر الجياشة. كانت جرأة “النّواب” على الحكام الظالمين عالية، فلم يتردّد بوصفهم، قائلاً: (يخفون ذيولاً أرفع من ذيل الفأر، وحين يخرّون سجوداً للشاه، تبينُ قليلاً من تحت عباءتهم). ورغم أنّه كتب أغلب قصائده بالعامية الشعبية إلّا أنّه بدأ حياته الأدبية بالفصحى وكتب الشعر العمودي والتفعيلة، كما مارس الرّسم أيضاً مؤكّداً بأنّ الفكرة هي من تختار شكلها الفنّي للمجيء. لم يكن ليستخفّ بجماليّات القصيدة وأسلوبيّتها التي تهبها الرونق المطلوب، لكن أحياناً كانت المناسبة والحدث المتسارع يفرضان شكل الخطاب الشّعري المباشر وهذا ما نراه في شعره الذي واكب قصف لبنان مثلاً، وقد اعترف هو بذلك.
في مقدّمة ديوانه السّابق الذكر، وهو قصيدة طويلة بالفصحى، كتب “النّواب” بأنّها محاولة لبناء سيمفوني في القصيدة العربية مختلف عن غناء الآلة الواحدة أو الربابة (… أنا حاولت ذلك في الوتريات ففيها تجد الكثير من الحوارات والبناء الدرامي المسرحي). أما شعره العامي فقد جاء من خلفيّةٍ اجتماعيّة عائليّة. تكثر فيها الأهازيج والردّات التي كان يسمعها في مراسيم العزاءات الحسينية ومواكب عاشوراء التي عايشها منذ طفولته، حيث كانت تأتي وتخرج من بيت أبيه الكبير في منطقة الكرخ ببغداد على نهر دجلة.
يقول في قصيدة “البراءة”: (يبني ضلعك من رجيته، لضلعي جبّرته وبنيته، يبني خدني لعرض صدرك واحسب الشيب اللي من عمرك جنيته، يابني طش العمى بعيني وأجيتك بعين الكَلب أدبي ع الدرب المشيته، يااللي شوفك يبعث الماي الزلال، بعودي وأحيا وآنا ميته). يقول أصدقاؤه ومعارفه بأنه كان يمتلك صوتاً غنائيّاً جميلاً وقويّاً، يصل بالمقام إلى درجات عالية. يغنّي بحزن حتى لتشعر أنّ العراق يقطّر من شرايين عذاباته وأحزانه. وقد أسّس لاحترام القصيدة العامية في الوسط الثقافي العربي الرسمي والنّخبوي ككل. ملحّنا” كلماته الأقرب إليه، هما “طالب الفرغولي، وكوكب حمزة” يعتبرهما من أرقى الملحنين الذين ارتقوا بالأغنية العراقية.
يقف مظفر النواب مع نزار قباني، ومحمود درويش الموقفَ ذاتَه من ترسيخ مقولة العرب ظاهرة صوتية، فإذا كان القباني قد عنى بالجسد أكثر من عنايته بالمرأة، فإنّ درويش قد حوّل فلسطين إلى أنثى وفضح الواقع العربي الذي فرّط بوطنه. أمّا النواب فأدرج مفردات السبّ والشّتائم في هجومه على المستبدّين العرب الذين باعوا “عروس عروبتهم” فلسطين.. للصّهاينة. كثيراً ما تكون متعة الاستماع لصوته وأدائه تضاهي متعة قراءة نصّه الشّعري السياسي بالتحديد.
جاء في ديباجة ترشيح اتحاد الكتاب العراقيين له لنيل جائزة نوبل عام 2018م ما يلي: (نجح الشاعر النواب في نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن الماضي في أن يحقّق ثورة شعريّة تمثّلت في كسر النظام العروضي التقليدي للشعر الشعبي بدرجة تماثل ما حقّقه في شعره الفصيح، كما أنّه أخرج القصيدة الشعبيّة من ضيق تداولها المحلّي، ومن إطارها الغنائي الرومانسي إلى فضاءات الحداثة وبما يشكّل رؤية اجتماعية وجمالية جديدة. إنه نسر الأساطير، وزقورة العراق، إذ ليست الزقورة درجات صاعدة إلى فناء المعبد، بل هي المرتقى نحو السّماء).
نهاية، دعونا نردّد مع الشاعر كلمات أغنيته “الريل وحمد” المشهورة: (مرّينا بيكم حمد واحنا بقطار اللّيل واسمعنا دك اكهوة وشمّينا ريحة هيل. ياريل صيح ابقهر صَيحة عشك ياريل).
أوس احمد أسعد