مجلة البعث الأسبوعية

على درب أسامة مشيت.. وفي أرض الحلم سكنت!!

“البعث الأسبوعية ” رامز حاج حسين

سقط فرخ سنونو من عشه ذات يوم في أرض الديار في منزل أهلي، فحملته وأعدته إلى عشه. كنت حينها مثله صغيراً غض العود. كنت أحمل كراسات الرسم الخاصة بي أجوب حواري مدينتي، سراقب، وأقول لكل أهلها، معلمين وأقرباء وجيران وأصدقاء: سوف أكبر لأرسم في مجلة (أسامة) مثل ممتاز البحرة. كانت رسوم البحرة – رحمه الله – تأسرني، تسرقني من أقراني، فأنزوي في غرفتي الساعات الطوال، وأنا أنقل وأقلد وأنقش خطوطه حتى حفظتها كما حفظت سورة الفاتحة، ونشيد بلدي، وخطوط يدي.

تدرجت في الدروب، وتشعبت بي الأحلام، وكبر فرخ السنونو وراح يحلق للبعيد، ويعود كل ربيع ليشكرني بحب وامتنان؛ وحين قررت الرحيل عن عشي الأثير لأمتهن الفن حلماً وطريقاً، كان ذاك السنونو يرافق الحافلة التي تقلني على طريق حلب دمشق الدولي، فيجاري بطيرانه سرعتها، ويوازي بنظراته نقرات أصابعي على شباك الحافلة، حتى وجدت نفسي على عتبة كلية الفنون الجميلة، ذات خريف مشبع بلون الغروب البرتقالي الذي أعشق، ومعبئ بكل ما في الشام من عطر وياسمين.. وللقدر، حين يُحسن عزف نوتة العطاء، نقرات لطيفة على أوتار قلب المحبين تجلت منذ الشهر الأول لدخولي الكلية؛ ولأني بين أقراني وزملائي في الفنون كنت عاشقاً متيماً بفن الرسم للأطفال، كانوا يتحدثون – هنا وهناك – عن رسومي لهم، حتى ذكرني أحدهم أمام أهم وأجمل الرسامين في مجلة أسامة، حينها، أستاذي في مادة الاتصالات البصرية، سرور علواني، فكان أن طلبني إلى لقائه في إحدى الحصص الخاصة به؛ وبعد أن اطلع على رسومي، دعاني إلى مرسمه، وفتح لي أبواب قلبه الكبير المعطاء مشرعة، وراح يعطيني من نصحه أجمله، ومن كتب الفن للأطفال أبدعها، ويواكب مشاريعي في الكلية خطوة بخطوة؛ ولما استيقن من موهبتي بعد شهرين من التمارين، قال لي: اصنع لي عملاً يليق بمجلة أسامة لأقدمك لرئيسة تحريرها.

كمن أعطي مفاتيح الجنان وكلمات السر الخاصة بألف مغارة للكنوز المسحورة، انطلقت بكلي وروحي وقلبي لأرسم وألون وأحلم وأكتب وأغني المواويل بالألوان، وحملت خلاصة تعبي بعد أسبوعين إلى مرسمه الخاص، ووقفت بين يديه كالتلميذ المحب المشفق المنتظر علامة النجاح.. يومها، علمني معنى الإغراق في الخصوصية والهوية المحلية، حين رمى لي في السلة البلاستيكية بأكثر من 36 عملاً، وقلبي يقفز رعباً مع كل ورقة تُرمى.. راح يمسك الورقة تلو الأخرى، ويكورها بيده، ويرميها في السلة، حتى بقيت بين يده قصاصة صغيرة مرسوم عليها شكل فلاح قروي ريفي بـ “كلابية” مرقعة، وطاقية، وشوارب كثة.. أمسكها براحتيه، وقال: “هذا عمل يستحق التوقف عنده!”. أمسك ورقة، وكتب عني لرئيسة تحرير مجلة أسامة، المرحومة دلال حاتم: “موهبة تستحق العناية وتستحق إعطاءها فرصة على صفحات أسامة الحبيبة”، وذيّل الورقة بتوقيعه!

اليوم التالي كان موعد العشق الأزلي المحفور في جيناتي، كيف لا، وغداً أدخل قصر ملوك الجان في خلدي، بوابة الحكاية وكهف الكنوز – أرض أسامة؟! فكان اللقاء بهياً، وكان العطف والحنان والرعاية الكبيرة من الخبيرة المميزة التي أمسكت رسوم شخصيتي، وراحت تقلبها، وتسألني: “من هذا؟”، فأقول لها خجلاً: أبو حمدو، واسمه الحقيقي العم زعتر”، فتضحك ملء فمها حبوراً، وترن ضحكتها ملء ساحة النجمة، ثم تقول: “.. وهذا الأخرق الذي في جواره، من يكون؟!” فأتشجع، وأجيب، وقد ملكت الشجاعة من وهج ضحكتها السابقة: “إنه صديقه عجاج أبو نسمة، الحامل السلبي للعمل، والمعاكس في الأدوار لأبي حمدو”، فتعاود ساحة النجمة الرقص على وقع ضحكاتها.

مالت بقامتها الأدبية الكبيرة نحوي، وهمست: “وهل تستطيع أن تكمل بسيناريو مستمر من صفحتين كل شهر؟”، فقلت لها: “نعم أستطيع!”.. من وسط دخان سيجارتها، نظرت نحوي بعمق، وقالت بتحد عميق: “.. وقد حجزت لأصغر رسام في المجلة صفحتين دائمتين حتى تتوقف عن إبهاري، يا صاحب أبي حمدو وعجاج”.

انطلقت أمسك بيد أبي حمدو من طرف، وبيد عجاج من طرف، نراقص حجارة الأرصفة حجراً حجراً حتى باب كلية الفنون، وكان لتشجيع زملائي، ودعمهم، وبحثي دائماً عن طريقة لإبهارهم بأعمالي، الدور الكبير في ثباتي على المضي قدماً في هذه الطريق.. وبدأت من يومها رحلتي مع أسامة.. وفي الأيام اللاحقة، كان اللقاء الكبير مع ممتاز البحرة هو عنوان المرحلة الكبرى، حين جلست بينه وبين أستاذي، سرور، في حضرة دلال حاتم، وكان أن سألني، وهو يستعرض رسومي وخطوطي: “ما هو حلمك في هذا الطريق؟”، فأجبته بعفوية: “أنا.. لا حلم لدي بعد الآن!!”.

اندهش الجميع من الجواب، وقال مستفسراً: “وكيف لا يكون لك حلم يا ولدي؟”، فأجبته: “كان حلمي أن ألقاكم، وأرسم في مجلة أسامة، وهاأنذا بينكم الآن، وأرسم لمجلة أسامة مغامرات دورية متسلسلة”، فصفق بيديه، وقال لي مداعباً: “مثل أستاذك سرور، لا تنقصك حنكة الإجابات.. بكل حال، أتشرف بأني تعرفت على شاب طموح مثلك يعيش حلمه وقناعته في الحياة بهذه السكينة”.. ومنذ تلك الحقبة الذهبية، وأنا وأبو حمدو، وعجاج، وكل رسومي لمجلة أسامة، نواظب على الزيارات المتكررة للمجلة لنترك فيها عملاً، ونأخذ منها الكثير من الأحلام، حتى تكلل الحلم برتبة أعلى من الشرف، يوم كُلفت من قبل الوزيرة الأستاذة لبانة مشوح – بطلب من الزميلة العزيزة، رئيسة تحرير المجلة، ريم محمود – بالإشراف الفني على المجلة الحبيبة والغالية، فباتت أسامة بيتي الثاني، مهوى فؤادي صباح كل يوم، بيت ألواني وأسراري، موطن العصف الذهني مع فريق المبدعين، ولقاء الأحبة لنصنع فرحاً سورياً خاصاً يليق بدروب هذه المجلة العريقة، ويليق بآمال وأحلام السادة السوريين الصغار، نرسم لوحة هنا، ونكتب قصة هناك، نذهب لنشارك أطفالاً فرحهم في هذه المدرسة، ونرسم ابتسامة على وجوههم في مكان آخر، ننتمي للأرض، للبيوت السورية على امتداد جغرافية الوطن، نحمل أنا ورئيس تحريرها، قحطان بيرقدار، الشاعر الجميل الرقيق، أحلام وهموم الفريق الصغير الذي ننتمي إليه، وأحلام الأهل من كتاب ورسامين، وننطلق بها في كل محفل ومنبر للطفولة، ونبث هموماً هنا وأحلاماً هناك، والهاجس الأول والأخير أن تبقى مجلة أسامة  محافظة على رونق وألق لمسات الرعيل الأول المؤسس.

على درب الحلم مشيت! في أرض الحلم سكنت! وأين تفضي بي الدروب بعد هذه المرحلة.. لا أكترث!!  لأني مازلت ذاك الطفل الذي حلم يوماً أن يرسم لمجلته الحبيبة لوحة صغيرة، فأصبح اليوم جزءاً من كينونة الجمال مع زملاء كثر فيها. واليوم، حين يأتي الربيع محملاً بقوافل السنونو في سماء دمشق، أبحث عن رفيق خطواتي، وعندما لا أجده أبتسم، وأقول: “أنت واحد من بين آلاف الطيور الجميلة، وحلمي مؤمن بين ريشاتك، فاخفق، وحلّق أنّى شئت، مادام للأمل حضور في قلبينا!