مجلة البعث الأسبوعية

لأجلِ صورةٍ لائقةٍ بالمرأة في أدبِ الأطفال

” البعث الأسبوعية ” قحطان بيرقدار

كثيرةٌ هي المقالاتُ والدِّراسات التي تناولتِ الحكايةَ الشَّهيرة “ذات القبّعة الحمراء” بصياغاتها العالمية المُتعدّدة، والمُشتهرة أيضاً باسم “ليلى والذئب”، ونرى في بعضِ هذه المقالات والدِّراسات أنّ هذهِ الحكايةَ الشَّهيرةَ ذاتُ دلالاتٍ ورموزٍ جنسيةٍ بحتة، ففيها الخوفُ من الاعتداء الجنسيّ، وفيها جوانبُ عدّة تتّصل بالخبرة الجنسية لدى المرأة، كما تُقدِّم صورةَ الفتاة السَّاذجة التي لا يُمكنُها التمييز بين الذئب والجدّة، ولا يُسمَح لها باستكشاف أيّ شيءٍ حتى في غرفة جدّتها.. ولعلّ أبرزَ ما قيلَ في ذلك التأويلُ، أو التحليل المعروف، الذي قدّمَهُ حولَ هذه الحكاية عالـمُ النفس والفيلسوف الألمانيّ الأمريكيّ “إريك فروم” (1900 – 1980).

 

صُوَرٌ سلبيّةٌ للمرأة

ممّا سبقَ، وبعيداً عن التعميم والأحكام المطلقة، وعلى الرغم من الصُّور المشرقة المرسومة للمرأة في شطرٍ من أدب الأطفال عامّةً، والأمثلةُ على ذلك كثيرةٌ، إلا أننا لا نستطيعُ أن نُنكِرَ أننا في شطرٍ آخر من أدب الأطفال عامةً، قديمه وحديثه، نتلمّسُ صُوراً سلبيةً للمرأة تحتاجُ إلى دراسةٍ وتأمُّلٍ وإعادةِ نظر؛ ففي بعضِ قصصِ الأطفال المستقاة من الموروث الأسطوريّ والدّينيّ (وأؤكّدُ كلمة “بعض” في غيرِ موضعٍ من هذا المقال)، تُصوَّرُ المرأة على أنها مُحرِّضٌ على الخطيئة، بل رمزٌ لها، وأنّ مكانَها الوحيد هو البيت، وأنها تابعةٌ للرَّجُل، وخاضعةٌ له، وأنها كثيرةُ الكلام، وتُفشي الأسرار. وفي شطرٍ من حكايات إيسوب ذات التأثير العميق في أدب الأطفال بنُسَخِها الكثيرة، نرى المرأةَ مرتبطةً بالناحية الجنسية تحديداً، أو نراها مثاراً للسُّخرية. وفي بعض القصصِ العالميّة المشهورة التي ينتمي مُعظمُها إلى أدبِ الأطفال الغربيّ، وغيره، وتربّتْ عليها أجيالٌ وأجيال، وحُوِّلَ بعضُها إلى أفلام رسومٍ مُتحرّكة، يستمرُّ تكريسُ الصُّورِ السلبيّة للمرأة بوصفها ساحرةً ماكرةً، أو مُشعوذةً، أو غولةً، أو زوجةَ أبٍ شِرِّيرةً، أو ساذجةً لا حول لها ولا قوة، تنتظرُ الرَّجلَ القويَّ الشُّجاع ليُغيّرَ مصيرَها البائس.. إلى آخر ما هنالكَ من صُورٍ سلبيّةٍ للمرأة في أعمالٍ بارزةٍ أخذتْ حظّاً كبيراً من الشُّهرة في أنحاء العالم.

من جهةٍ أُخرى، نلاحظُ أنّ ملامحَ هذهِ الصُّور السلبيّة للمرأة لاتزالُ مُستمرّةً حتّى الآن في شطرٍ من آداب الشُّعوب، ومنها أدب الأطفال العربيّ، فكثيراً ما أقرأُ قصصاً مُوجَّهةً إلى الأطفال، منها ما يكونُ في المسابقات التي أشتركُ في تحكيمِها، ومنها ما يَصِلُني للنشر في مجلة أسامة، ومنها ما يكونُ مُقدَّماً للنَّشر في بعض المُؤسّسات العامّة والخاصّة، فألاحظ فيها ملامحَ من الصُّور السلبية للمرأة كأنّها مُسلَّماتٌ لا محيدَ عنها. فعلى سبيل المثال، تُصوَّرُ الأمُّ داخلَ الأسرة بثيابٍ تُشبهُ ثيابَ الخادمات، في جلسةٍ عائليّةٍ، وهي تكوي الملابسَ، في حينِ أنّ الأبَ (رَجُل الثقافة الوحيد في المنزل) يجلسُ بكامل أناقتِه، ونظّارتُهُ على عينيه، يتصفّحُ كتاباً، والأطفالُ يلعبونَ حولَهما؛ وفي مثالٍ آخرَ، تُصوَّرُ الفتاةُ على أنّها تابعةٌ خائفةٌ تنتظرُ الحمايةَ من الرَّجُل، فهو الوحيدُ القادر على التفكير والكلام والفعل وحلِّ المشكلات. ولا يختلفُ الأمرُ في القصص التي تتّخِذُ الحيواناتِ والحشراتِ والجمادات شخصياتٍ لها على سبيل الأنسنة، فالبطّةُ لا تملكُ إلّا أن تبيضَ، وتعتني بالصِّغار، وعملُ الدُّودةِ الأبرز هو أنّها تغسلُ ثيابَ زوجِها، وتتعبُ جدّاً في سبيل ذلك.. ولا تَرِدُ هذه الملامحُ في النُّصوص فحسب، بل غالباً ما نراها مُجسَّدةً في الرسوم المرافقة للقصص، وهذا ما يشي بافتقارِ بعضِ رسّامي الأطفال إلى الوعي التّربويّ اللازم في أثناء الرَّسم للطِّفل.

 

حتّى الأطفال؟!

ولا ريبَ في أنّ أمثالَ تلك القصص قد تسلّلتْ إلى دواخلِ الأطفال ووجداناتهم، وفعلتْ فعلَها فيهم، وشكّلتْ جُزءاً من وعيهم وأفكارِهم ونظرتِهم إلى المرأة، ولعلَّ الملفتَ في هذا السِّياق أنّ بعضَ الأطفال الذينَ يكتبون القصصَ قد أمْسَوا ضحايا القصص التي كتبَها الكبارُ لهم، العربيّة منها والمترجمة، وضحايا التربية والعادات الاجتماعيّة السَّائدة في بيئاتهم، فكثيراً ما قرأتُ قصصاً كتبَها أطفالٌ للنَّشر في مجلة أسامة، أو للمشاركةِ في بعض المسابقات، قد وردتْ فيها صُورٌ سلبيةٌ للمرأة من تلك التي ذكرتُ.

 

كيفَ نُعالجُ ذلك؟

لن أخوضَ هنا في الدَّعوة إلى تعزيز مكانةِ المرأة، وما يتّصلُ بذلك من قضايا طالَ الحديثُ فيها على مستوى الدولة والمجتمع، لكنّ ما أودُّ التركيزَ عليه هو أنّ الأدبَ عامّةً يرسمُ صُورةَ الحياة بتَوهُّجٍ وتأثير، كما يرسمُ الصُّورةَ التي ينبغي أن تكونَ عليها الحياة، ويستخلصُ العِبرَ من الماضي، ويمنحُ الحاضرَ أبعاداً تدعو إلى تأمُّلِهِ ومعرفة الوجهةِ التي يسيرُ إليها، كما يستشرفُ المستقبلَ، ويحاولُ التَّنبُّؤَ بأحوالِه، ومن ثمّ فإنّ تأثيرَهُ عميقٌ جدّاً بوصفِهِ مُعلِّماً للإنسان، يُسهِمُ في تشكيل أفكارِهِ ورُؤاهُ ومُعتقداتِه، وكذلك أدبُ الأطفال الذي يَتميّزُ بخطورةِ دورِهِ، وأنّهُ مُوجَّهٌ إلى الأطفال، يلعبُ دوراً كبيراً في بناءِ شخصيةِ الطِّفل وتشكيلِ أفكارِهِ ونظرتِهِ إلى نفسِه، وإلى الآخرينَ من حولِه، وإلى الحياةِ عامّةً، لذلكَ أدعو جميعَ المُشتغلينَ في مجالِ أدب الأطفال إلى إعادةِ النَّظر في الكيفيّة التي يتـمُّ عبرَها تَناوُل صورةِ المرأة في أدبهم، وإلى رسمِ صُورةٍ لها تليقُ بمكانتِها، فهيَ في الحقيقة المجتمعُ بأكمله، لا نِصفهُ كما كان يُقال، هيَ الجدّةُ والأمّ والأخت والزوجة والابنة، وهي صانعةُ الرِّجال ومُبدعةُ المجتمعات، وهي روحُ الحياة، وحسبُنا المرأةُ السُّورية مثالاً، فهيَ القويّةُ الصَّابرة، أمُّ الشَّهيد، وزوجة الشّهيد، وأخت الشّهيد، وابنة الشهيد، وعنوانُ البناء والصُّمود والتَّضحيةِ والنَّصر.