“يوميات”.. ترف مراهقين أم ذاكرة للتاريخ؟
من العادات التي كانت تقوم بها فتاة منذ أيام المراهقة عندما تعيش خذلان الحب والمرارة التي تجرّها خلفها هذه المشاعر، أن تدوّن تفاصيل ما مرّ معها في تلك العلاقة، وأن تصف كل أحاسيسها الماضية والحالية وتظل تكتب إلى أن تجفّ الدموع ويخرج الشخص من الذاكرة ليسكن صفحات ذلك الكتاب ويعيش فقط بين سطورها، عادة واظبت عليها الفتاة كثيراً، وكانت قد قرأتها في إحدى الروايات، كانت تقوم بها صاحبتها لتستطيع من بعدها مواصلة حياتها، وبالفعل قيام الفتاة بتلك التجربة والتي امتدت لتشمل ليس علاقات الحب الفاشلة فقط، بل تسجيل كل ما يمرّ من أحداث وأحلام حتى أصبحت عادة تدوين اليوميات ركناً أساسياً في أيامها.
حين نسمع كلمة “يوميات” ينطلق خيالنا ليرسم صورة لدفتر صغير، زاهي اللون، مخبأ بين الكتب المدرسية حتى لا يلفت الانتباه، وقد يظنّ كثيرون أن هذا الفعل يقتصر على عمر المراهقة، كتابة اليوميات أتت من الثقافة الشرق آسيوية وشرق المتوسط، ومنها انتشرت إلى العالم كله، في القرن الثاني الميلادي كتب ماركوس أوريليوس كتاب” تأملات”، كان من أوائل الكتب التي كتبها الإنسان وكان يقصد بها نفسه، أي أنها موجهة له بالدرجة الأولى، فالكتاب يحتوي على فلسفاته بالحياة، وكان هذا الكتاب سبب خلود ذكره.
كتابة اليوميات هي طريقة سرد شخصية، لأحداث مهمّة أو عادية حدثت ضمن اليوم، والأهم من ذلك كيفية التعامل مع تلك الأحداث، البعض يكتفي بتدوين أبرز الأحداث المستجدة في حياته، في حين يحرص البعض الآخر على تدوين جميع تفاصيل يومه، أو الاكتفاء بأي حدث خارج روتينه اليومي. في إحدى زيارات الأديب التشيكي “ميلان كونديرا” إلى باريس على متن سيارة أجرة وكان سائقها ثرثاراً، ولم يستطع النوم ليلاً، ففي أيام الحرب عندما كان بحاراً، غرقت سفينته، فسبح ثلاثة أيام وثلاث ليال إلى أن انتُشِل، ثم قضى شهوراً عديدة بين الحياة والموت شفي بعدها، لكنه أصيب بالأرق. قال السائق لكونديرا باسِماً: خلفت ورائي الثلث من حياتي، وهو الذي أكبرك به، سأله: وماذا عساك تفعل بهذا الثلث الزائد؟ أجابه: أكتب.
فرغب كونديرا أن يعرف ماذا يكتب؟ أجابه السائق: أكتبُ حياتي، حكاية رجل سبح لمدة ثلاثة أيام في البحر، وصارع الموت، وفقد النوم، لكنه حافظ على رغبته في الحياة.
سأله: أتكتب ذلك لأولادك؟ يوميات للعائلة؟ ابتسم له بمرارة وقال: لأولادي؟ هذا لا يهمّهم، هو مجرد كتاب أكتبه هكذا، أعتقد أنه قد يساعد الكثير من الناس.
ويعلِّق كونديرا: “هذه المحادثة مع سائق سيارة الأجرة جعلتني أكتشف فجأة جوهر النشاط الذي يمارسه الكاتب، نحن نؤلف الكتب لأن أبناءنا لا يهتمون بنا، نخاطب عالماً مجهولاً لأن زوجاتنا يغلقن آذانهن عندما نكلمهن”.
كتابة اليوميات فن قد يلجأ إليه أي شخص، سواء كان قريباً من حقل الأدب أو بعيداً عنه، إنها نوع من السيرة الذاتية اليومية، يسجل فيها الكاتب، نشاطه اليومي المعيش. تختلف اليوميات عن المذكرات أو السيرة الذاتية، لأنها فعل كتابة يومي يوثق الحدث والحالة الآنية وما يرافقها من انفعالات ونتائج، بينما تعتمد المذكرات على سرد لماضٍ بعيد وقريب مع استخلاص النتائج والانطباعات.
تعتمد كتابة اليوميات على الأحداث اليومية التي يعيشها أو يعايشها الكاتب، من أبسطها إلى أكثرها تعقيداً، قد يسجل الكاتب تبعاً لأهدافه كل الأحداث أو ينتقي منها ما يحرك فكره ومشاعره، ويخلق لديه أفكاراً وتساؤلات ومواقف.
قيمة اليوميات أكبر بكثير مما يعتقد البعض الذين يربطون بينها وبين مرحلة المراهقة والرومانسية، فاليوميات التي كتبها الأقدمون كانت مرجعاً أساسياً للعديد من المؤرخين، في سبر الزمن الماضي وما فيه من أحداث بارزة، وعادات وقيم المجتمع، فمثلاً يوميات فرجينيا وولف 1882- 1941 رآها البعض “وثيقة” تؤرخ لفترة من تاريخ بريطانيا، والحياة الثقافية والاجتماعية فيه، فقد كانت وولف كاتبة يوميات متفانية حيث بدأت بتدوين يومياتها حين بلغت من العمر ثلاثة وثلاثين عاماً، واستمرت قبيل وفاتها بأربعة أيام، مخلفة وراءها ستة وعشرين كراساً مكتوبة بخط يدها، ولم يكن ذلك مجرد أداة لاكتشاف الذات بل حاولت وولف أن تكتب اليوميات كنوع من التجريب والمحاكاة لصقل حرفتها، كما لاحظ زوجها في مقدمة كتاب (يوميات كاتبة) الذي يضمّ يومياتها: “إن كتابة اليوميات لدى وولف ما هي إلا طريقة لممارسة التجريب في فن الكتابة”.
كتابة اليوميات أشبه بحديث أو حوار يومي بين الكاتب ونفسه عبر الورق، وهي بمثابة بوح عن مكنونات النفس ولواعجها، أو تدوين الأفكار والقناعات التي يعتز بها سواء جاهر أو احتفظ بها لنفسه، إلى ما استخلصه من رؤى وتقييم لمجريات الأحداث الخاصة أو المحيطة به، وانعكاسها عليه.
تبقى اليوميات الصديق الأقرب والأوفى للإنسان، لكونها تحتفظ بذاكرته على عكس الأصدقاء والأقرباء الذين عندما يرحلون، سواء إلى بلد آخر أو يفارقون الحياة، يأخذون معهم جزءاً من ذاكرته التي لن يستطيع مشاركتها مع أحد غيرهم سوى اليوميات التي تبقى بعد رحيله هو الآخر.
عُلا أحمد