ثقافةصحيفة البعث

بوابات السرد عند أيمن الحسن وتفرعاتها

ملده شويكاني

بوابات السرد في كتابات أيمن الحسن الروائية دخلت دهاليز الشعر والأغنية والكلام المحكي، بتنويعات صوت السارد بطل الرواية الكاتب ذاته بضمير المتكلم، بالإضافة إلى اتخاذه صفة السارد الموضوعي بمتابعة السرد بضمير الغائب في صوت شخصيات الرواية، كما استخدم ضمير المخاطب في مواضع.

السمة الرئيسية في مكونات السرد لديه هي الكثير من الذاتية، كما جعل المكان بطلاً أساسياً ارتبط بشخصيات الرواية وبشخصية السارد بشكل خاص، ما أعطى كتاباته سمة الواقعية، ولاسيما أنها ارتبطت بأحداث مفصلية من تاريخ سورية المعاصر بحرب تشرين التحريرية وتحرير القنيطرة ومن ثم استرجاع حرب النكسة، وبالتأكيد لم تغب القضية الفلسطينية.

أزمنة السرد

ومن زاوية أخرى، اعتمد الحسن على وصف الشخصيات بدقة متناهية وإظهار مستواها اللغوي والنفسي والاجتماعي، فكان أشبه برسام وموسيقيّ وطبيب نفسي وسينمائي ومسرحي، كل هذه العناصر اجتمعت في مدوّنات سرده الروائي الجامع بين الواقعي والخيالي والتوثيقي والعاطفي، باختلاف أزمنة السرد، ولكونه مهندساً انعكست دراسته على تنظيم هيكل الرواية وتفاصيل المتن الحكائي، وعلى تركيزه على علامات الترقيم كاملة وتوظّيفها بالتقطيع السردي إحدى تقنيات السرد لديه.

من المكان إلى الذاتية

اخترتُ روايتين من رواياته لتفنيد بوابات السرد لديه، ففي رواية “أبعد من نهار- دفاتر الزفتية” الصادرة عن اتحاد الكتّاب العرب، وجاءت بمئتين وخمسين صفحة، يصرح مباشرة “دفاتر الزفتية هي التي لمّت غربتي، إذ أجبرت الأوضاع الحياتية والدي على مغادرة القرية بعد إصابته بالخدمة في زمن الانفصال وبترت ساقه، ليأتي ويعمل في دمشق، فأنا القادم من قرية العمارنة في جرابلس محافظة حلب، عشتُ الغربة مع النازحين من الجولان فتوحدت مشاعري معهم بانتظار حلم العودة”.

ويتابع رحلة السرد بوصف المكان والحالة المعيشية الصعبة التي يعيشها النازحون، ليصل بانتقال تدريجي إلى الذاتية من الدفتر الثاني يوميات الزفتية في حارة البلبل: “أتذكر بداية مجيئنا، وسقف غرفتنا المائل لكي لا يقف المطر عليه، كما في بقية الأسقف، التي يجوّر فيها، ما يؤدي إلى دلف كالمزراب أحياناً”.

ومن المكان إلى تنويعات السرد بالدمج حيناً بين ضمير الغائب والمتكلم والنشيد: “لقد حضر قبل فترة وجيزة حصة الموسيقا، واستمع إليّ أغني نشيد زهرة المدائن لفيروز، لذلك يعقب الآن، في حنين جارف لمدينته القدس، التي هي كما يؤكد في ثقة مطلقة –زهرة المدائن فعلاً: جزء لا يتجزأ من ذاكرتنا تلك المواقع، التي درجنا فيها أيام الطفولة”.

خطّ التوثيق

ليتابع السرد باستحضار مقطع من قصيدة محمود درويش:

“وليكن

لا بدّ لي أن أرفض الموت

وأن أحرق دمع الأغنيات الراعفة

فإذا كنتُ أغني للفرح

خلف أجفان العيون الخائفة

فلأن العاصفة

وعدتني بنبيذ وبأنخاب جديدة

وبأقواس قزح”

وأجمل ما تضمنته الرواية خط التوثيق الذي أدخله الحسن في الدفتر الثالث- مازال اسمها القنيطرة (سفر الحرب) بتقديمه بأغنية مصطفى نصري “عيد بلادي بعسكرها، يارب يدوم العيد”، ومن ثم وصف اللحظة التاريخية حينما رفع القائد الخالد حافظ الأسد العلم العربي السوري في سماء القنيطرة، مستحضراً قول القائد الخالد حافظ الأسد في هذه اللحظة وسط مشهد ملحمي كما وصفه الحسن: “إن إرادة الشعب لا يمكن أن تُقهر، وإن الوطن فوق كل شيء، وعلينا أن نستمر بالإعداد لطرد العدو من كل شبر من أرضنا العربية المحتلة”.

الذاكرة والمكان

أما في روايته في “حضرة باب الجابية- طفل البسطة”، الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، فأتوقف عند تفاصيل أخرى أشدّ التصاقاً بالروائي، كونه استمد من ذكريات طفولته المحور الأساسي الذي بنى عليه هيكل الرواية، باعتماده على المكان الذي شارك أبطال الرواية بالأحداث وكان معلماً أساسياً من معالم هذه الرواية التي اختلطت فيها المشاعر الوطنية أثناء حرب النكسة بالمشاعر الوجدانية والذاتية بكثير من الألم والشفافية: “أصابت مدفعيتنا المضادة للطائرات في العاشرة والنصف من صباح هذا اليوم 14/ 6/ 1967 قاذفة قنابل من طراز فوتور”.

العمال البسطاء 

وكما قُسّمت روايته الأولى “أبعد من نهار- دفاتر الزفتية” إلى دفاتر أخذت مكان الأبواب وضمت فصولاً، قُسمت روايته الثانية التي تجاوزت الثلاثمئة والأربعين صفحة تناول فيها حال العمال المهمشين البسطاء إلى بابين، يحتوي كل واحد منهما على فصول عدة، الأول بعنوان “سيرهم المأثورة” والثاني بعنوان “مآل أخير”، ومن الفصل الأول من الباب الأول يدخل الحسن متن السرد بالتعريف بطفل البسطة بطل الرواية السارد، الذي ارتبط بالمذياع أحد أبطال الرواية أيضاً: “يلتطي طفل البسطة إلى جوارها حانياً رأسه لكي لا يراه أبوه: أنزعج كثيراً إذا طلب مني ملء الإبريق، وأنا أستمع إلى برنامجي المفضّل، وأروح أدندن مع لازمته الموسيقية”.

الأغنية ضمن السرد 

والملفت أن تقنيات السرد بدت أكثر عمقاً من الرواية الأولى، فبالإضافة إلى التركيز على وصف المكان، باب الجابية “تقبع ساحة باب الجابية في الجهة الغربية من سور مدينة دمشق القديمة عند نهاية السوق الطويل، أو ما يُسمّى الشارع المستقيم مواجهاً الباب الشرقي، قريباً من مدخل سوق مدحت باشا، يحدّها من الأسفل إسفلت أسود”، كذلك على وصف الأشخاص، ولاسيما “أبو طنوس” الذي بترت ساقه اليسرى إثر إصابته أثناء الخدمة في معسكر على أطراف مدينة النبك، والد طفل البسطة بطل الرواية الآخر الذي تعرفنا إليه من خلال السارد الموضوعي باستخدامه صوت الضمير الغائب: “وبالدمج بالحوارات بين لغة السارد بالفصحى والكلام المحكي للشخوص في مواضع “يحضر أبو عوض فنجان القهوة، ويسألني “شو رأيك بصحن فول من مطعم دعدوش” اهتم بالأغنية واستحضر من خلالها الموسيقار فريد الأطرش الذي يحبه والده ويقلّده:

“أنا في الدنيا شريد هايم

نجوم الليل

بحب من غير أمل

عيني بتضحك وقلبي بيبكي”

ومن ثم نجاة الصغيرة ومحمد عبد الوهاب وعلي الحجار وغيرهم، فكانت الأغنية تعبيراً مباشراً عن الحالة النفسية والحياتية التي يعيشها الأبطال، كذلك بالأناشيد الوطنية مثل موطني والتي تتعلق بفلسطين:

“طاق طاق طاقية

فلسطين حرة أبية”

وكما انتهت الرواية الأولى بالتوثيق، انتهت الثانية بالعودة إلى الذكريات: “تعمل الذاكرة على تحرير الماضي لتولد الحكايات بتفصيلاتها المؤلمة.. أرجوك أبي أخطأتُ، ومنك السماح”.