الفعل ورد الفعل بين الولايات المتحدة وأوروبا
ريا خوري
تمّ تسجيل وجود للجيش الأمريكي في جمهورية ألمانيا الغربية، أول مرة، بموجب اتفاق دفاع بين البلدين منذ منتصف القرن العشرين، وتحديداً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان هذا الوجود لا يقتصر على أفراد أو منشآت بل على مؤسّسات ضخمة لها أبعاد عسكرية وسياسية واقتصادية، عندما كانت ألمانيا الاتحادية جزءاً من إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية الدفاعية في أوروبا.
سيطرت القوات الأمريكية على الأراضي الألمانية مدة عشرة أعوام، وعلى الرغم من انسحاب قوات “الحلفاء” من ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية بقيت قيادة عمليات أوروبا (EUCOM) ضمن قاعدة ضخمة تقع جنوب مدينة شتوتغارت، وهي القاعدة المكلفة بإدارة والإشراف على 51 قاعدة أو وحدات عسكرية في دول أوروبا، وتتضمن القواعد العسكرية الأمريكية قوات جوية ومشاة وقوات بحرية.
في الآونة الأخيرة هدّد السفير الأمريكي ريتشارد غرينل بسحب القوات الأمريكية الموجودة في ألمانيا، والتي تتكفل بحمايتها، وكان التحالف المسيحي المحافظ الذي تنتمي إليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد أبدى تفهمه لذلك التهديد، بينما قوبل باستياء من قبل الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الشريك في الائتلاف الحاكم، وحزب الخضر، في حين أبدى حزب اليسار ترحيبه بالمقترح.
الجدير بالذكر أن عدد الجنود الأمريكيين في ألمانيا يصل إلى نحو 38 ألف جندي، ولا يفوق هذا العدد إلا الموجودين في اليابان. وبين عامي 2006 و2018 انخفض عديد تلك القوات إلى أكثر من النصف، بسبب استجابة الجيش الأمريكي لتحديات صعبة ومعقدة في الأمن العالمي.
تعتبر جمهورية ألمانيا الاتحادية موطناً لخمسٍ من الحاميات السبع للجيش الأمريكي في أوروبا، فالاثنتان الأخريان في إيطاليا وبلجيكا، ومقر قيادة الجيش الأمريكي في أوروبا يوجد في قاعدة فيسبادن، وهي المدينة القريبة من فرانكفورت وسط غرب ألمانيا. وتفيد المعلومات التي قدّمها الجيش الأمريكي إلى قناة DW الألمانية أن هذه الحاميات الخمس تتألف من منشآت عسكرية متنوعة في مواقع مختلفة، أهمها في بوبلينغين الواقعة جنوب غرب ألمانيا الاتحادية كجزء من حامية الجيش الأمريكي في مدينة شتوتغارت. أما بالنسبة للقوات الجوية الأمريكية فيقدّر عدد أفرادها بـ 9600 جندي وضابط منتشرين في القاعدة الجوية الأمريكية في رامشتاين وسبانغداهليم.
إن قرار القوات الأمريكية بسحب ثلث القوات المنتشرة في ألمانيا يأتي ليضيف انقساماً جديداً بين إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية التقليديين، وخاصة الأوروبيين منهم. كما يدفع هذا القرار بتساؤلات جديدة عن مصير العلاقات التي امتدت عقوداً من الزمن، ورسمت جزءاً مهماً من خارطة العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. اعتقد ترامب بأن اتخاذ هذا القرار سيؤلم برلين، ويجعلها تسارع لاسترضائه بدفع مزيد من الأموال التي يطلبها، لكن ردّ فعل القيادة الألمانية الأولي جاء عكس ذلك، حين قال وزير الدولة لشؤون أوروبا في وزارة الخارجية الألمانية: “علينا ألا نتذمر، وعلينا إدراك وتفهم الخطوة الأمريكية على أنها ناقوس إنذار يدفعنا إلى تعزيز سيادتنا الأوروبية”. إن هذا التصريح يعبّر بوضوح تام عن ضرورة أن تنهض أوروبا من جديد وتخرج من حالة ما بات يعرف بـ”القارة العجوز”، وأن تعزّز دورها في العالم، وخاصة عندما دخل ترامب إلى البيت الأبيض، وهو يهدف إلى بناء نظام أمني مستقل عن الولايات المتحدة الأمريكية، وإقامة علاقات جيدة وتعاون مع القوى الكبرى مثل روسيا الاتحادية والصين، بعيداً عن أجندة الولايات المتحدة التي تقوم على صناعة الخلافات والخصوم من أجل تعزيز نفوذها وسيطرتها العالمية.
لقد بدا الأوروبيون مقتنعين تماماً بأن رياح التغيير الكبير بدأت تهبّ على العالم من كل اتجاه، وبدأت تترسخ تلك القناعة بعد أن صوّت البريطانيون على استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي “بريكست”. كثير من قادة دول الاتحاد توقعوا بشكل مبكر انقلاب إدارة ترامب، وهذا ما تمّ تجسيده على أرض الواقع حين انقلبت المعادلة التاريخية لتصبح بين الطرفين أقرب إلى التنافس منها إلى التعاون والصداقة.
الواضح في هذا الأمر أن كل محاولات رأب الصدع قد فشلت، وبدأت دول الاتحاد الأوروبي تتذمّر من سياسة الابتزاز التي تمارسها الولايات المتحدة، والتي تجاوزت كل تقاليد العلاقات بين الدول. من هنا يؤكد المطلعون أن هذه الحالة ليست مستغربة، وتتوافق مع السيرورة التاريخية التي تأبى الثبات، وأن هندسة العالم بعد هزيمة النازية منتصف الأربعينات من القرن العشرين لن تدوم إلى الأبد، والزوال نهايتها، وخاصة بعد أن سقط الاتحاد السوفييتي، وظهرت الصين كقوة جبارة في العالم.
لقد أصبح الأوروبيون وفي مقدمتهم ألمانيا على ثقة تامة بأن أمن وأمان القارة جميعها لن تنهض به القواعد العسكرية الأمريكية المدجّجة بأعتى الأسلحة الفتاكة وعدد كبير من آلاف الجنود التابعين للجيش الأمريكي، وإنما بفتح جسور الحوار والنقاش في معظم القضايا التي تهمّ تلك البلدان مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتأمين المصالح الوطنية مع القوى الأخرى، ولاسيما جمهورية روسيا الاتحادية والصين الدولة الجبارة اقتصادياً. أما عن تهديد روسي لدول الاتحاد الأوروبي فهو تعبير عن معادلة قديمة لم تعد تعبّر عن هذا العصر وروحه، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية تتعمّد إحياءها كلما ماتت حتى لا تفقد حضورها وسطوتها وقوة نفوذها، وهو ما يفعله وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الذي لا يكلّ من التحذير من خطر ماحق قادم من الشرق، مرة من جمهورية روسيا الاتحادية، ومرة من الصين، ويبدو أن ذلك لا يجد ردود فعل، لأن الأوروبيين ينظرون إلى العالم من وجهة نظر مخالفة لوجهة نظر الولايات المتحدة الأمريكية، فالمعايير مختلفة تماماً.