دراساتصحيفة البعث

سمات الامبريالية في أمريكا اللاتينية

 

ترجمة وإعداد: لمى عجاج

إن فهم الامبرياليّة كظاهرة عامّة يظهر جليّاً في طريقة عملها ضمن سياقٍ ومضمونٍ محدّد، أما ممارستها فهي إستراتيجية عامّة تختلف في دوافعها وأدواتها وأهدافها وارتباطاتها التي تعتمد على طبيعة المستعمر والدولة المُستعمَرَة، فالرئيس دونالد ترامب أعطى مثالاً واضحاً يوضّح السّمة المميزة للامبريالية في سياسته مع فنزويلا، وبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فنزويلا هي الهدف الحاليّ لسياستها الاستعمارية الذي سوف نتوسع في شرح خلفيّاته وآلياته ومدى تأثير القوة الاستعماريّة التي تستخدمها أمريكا لممارسة هيمنتها.

الخلفية التاريخيّة:

يعود تاريخ تدخّل الولايات المتحدة الأمريكية في الشأن الفنزويلي إلى زمنٍ طويل، ويرجع هذا لأسباب كثيرة في مقدمتها السيطرة على ثرواتها النفطيّة. ففي عام 1950 أرسلت أمريكا إلى فنزويلا قوةً عسكريةً ديكتاتوريةً بقيادة بيريز جيمينيز تمّ إسقاطها فيما بعد بواسطة التحالف الجماعي للحزب الاشتراكي الثوري والأحزاب القومية والديمقراطية الاجتماعية. لم تنجح واشنطن ولم تتمكّن من التدخل عسكرياً، فحاولت بدلاً من ذلك الوقوف إلى جانب حزب العمل الديمقراطي (يسار وسط) وحزب كوبيه
(يمين وسط) الذي كان معروفاً بمناهضته لحزب القضية الراديكالية اليساري. ومع الوقت استعادت الولايات المتحدة الأمريكية سيطرتها الاستعمارية على فنزويلا بعد أن بدأ الاقتصاد بدخول مرحلةٍ حرجةٍ في عام 1990 أدى إلى حصول الانتفاضة الشعبية في فنزويلا. لم تتدخل الولايات الأمريكية في بادئ الأمر ولكنها عندما شعرت ببدء المدّ اليساري في فنزويلا بقيادة هوغو تشافيز الذي قام بتأسيس حركة يسارية باسم الفقراء في فنزويلا، وشارك في محاولة للإطاحة بالحكومة الفنزويلية برئاسة كارلوس بيريز، أحسّت أمريكا بخطورة الوضع، وفضلاً عن ذلك كانت القوات العسكرية الأمريكية في ذلك الوقت منشغلةً بحملاتها على دول البلقان
(يوغوسلافيا) والشرق الأوسط، كما كانت تستعد للحرب ضد العراق وغيرها من الدول القومية بسبب دعمها للقضية الفلسطينية ومعارضتها لسياسة “إسرائيل”. استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية ذريعة مواجهة التهديد الإرهابي الحاصل في العالم كحجة للمطالبة بالحصول على الدعم الواضح والصريح لشنِّ حربٍ عالميةٍ واسعةٍ ضد الإرهاب، ولكن الرئيس تشافيز لم يخضع لطلب الولايات المتحدة الأمريكية وصرح قائلاً: “إننا لا نحارب الإرهاب بالإرهاب”. اعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية أن تصريحات تشافيز حول الاستقلال هي بمثابة تهديد حقيقي لرغبتها بالسيطرة على أمريكا اللاتينية وثرواتها، لذلك قررت واشنطن أن تطيح بالرئيس المنتخب هوغو تشافيز، وخاصّة بعد أن قام بتأميم صناعة البترول المملوكة للولايات المتحدة الأمريكية، فقامت في نيسان عام 2002 بتنظيم انقلابٍ عسكريٍّ تمّ القضاء عليه خلال 48 ساعة بانتفاضةٍ شعبيةٍ مدعومةٍ بوحداتٍ من الجيش، كما كانت هناك محاولةٌ ثانية للإطاحة بالرئيس هوغو تشافيز قام فيها العاملون في المؤسسة الفنزويلية الوطنية للبترول الذين قاموا بإضرابٍ وتوقفوا عن العمل في محاولةٍ للانقلاب على تشافيز، ولكن تم التّصدي لها من قبل العمّال ومصدّري النفط في الخارج الذين دعموا الثورة الشعبية الوطنية التي قادها تشافيز ودعت إلى خصخصة النفط الفنزويلي وتأميم الشركات النفطية.

إن الانقلاب الفاشل دفع واشنطن في ذلك الوقت إلى اتخاذ استراتيجيات انتخابية مموّلة من قبل مؤسسات مدعومة من واشنطن وأخرى غير حكومية، فالهزائم الانتخابية المتكررة دفعت أمريكا إلى مقاطعة الانتخابات والحملات الدعائية التي كان تهدف إلى شرعنة النجاح الانتخابي الذي حقّقه تشافيز، والجهود التي بذلتها واشنطن جميعها باءت بالفشل ولم تمكنها من استعادة قوتها الاستعمارية على فنزويلا، بل على العكس زادت من الدعم الانتخابي للرئيس تشافيز ووسّعت سيطرة الدّولة على الثّروة النّفطية وغيرها من الموارد، كما أن التّوجه الصّلب والهادف للتغيير الجذري للواقع السياسي زاد من قاعدته الشعبية وزادت مواقفه المناهضة للسياسة الامبريالية الأمريكية من حجم الدعم له بين الحكومات والحركات الثورية في كل مكان من أمريكا اللاتينية، كما عزّزت من نفوذ الرئيس تشافيز في منطقة البحر الكاريبي من خلال تدعيم علاقات التعاون الاقتصادي والسياسي مع منطقة البحر الكاريبي وتزويدها بالنفط، كما ساهمت اللّقاءات الإعلامية التي أجراها الرئيس تشافيز مع الإعلاميين في زيادة الدعم الشّعبي له وعزّز من سماته الكارزميّة.

إن الأسباب التي جعلت من أمريكا اللاتينية حالةً خاصّة هي ثباتها على مواقفها، ورفض الرئيس تشافيز للتدخلات الاستعمارية الأمريكية، وهناك خمسة أسباب رئيسيّة ساعدت الرئيس تشافيز في دحر المطامع الأمريكية للسيطرة على فنزويلا وهي: تورّط الولايات المتحدة الأمريكية في حروبٍ طويلة وعديدة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا وشمال أفريقيا، الأمر الذي ألهاها عن أمريكا اللاتينية، فضلاً عن التعهدات العسكرية التي التزمت فيها مع “إسرائيل” وجعلت الولايات المتحدة تنشغل عن فنزويلا. وسياسة فرض العقوبات التي اتّخذتها الولايات المتحدة الأمريكية في فنزويلا بين عاميّ 2003-2011 والتي ساعدت على ازدهار السلع ودعم الاقتصاد في فنزويلا، كما ساعدت على تأمين الموارد اللّازمة لتمويل البرامج الاجتماعية المحليّة وألغت احتكار النّخبة المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية للبضائع المحلية. واللّيبراليّة الجديدة التي استفادت منها فنزويلا للخروج من الأزمات التي حصلت في التسعينيات وحتى عام 2001 والتي زادت من قوة الحكومات الشعبية الوطنية اليساريّة في أمريكا اللاتينية، وهذا تماماً ما حصل في الأرجنتين والبرازيل والأكوادور وبوليفيا والهندوراس، في حين بقيت الأنظمة المركزية في البيرو وتشيلي محايدة، واستطاعت فنزويلا أن تبرهن مع حلفائها على فشل الولايات المتحدة في السيطرة على المنطقة. وولاء الجيش، فالرئيس هوغو تشافيز بحكم كونه ضابطاً عسكرياً سابقاً حصل على ولاء الجيش وقطع الطريق على كل المؤامرات التي تحيكها الولايات المتحدة الأمريكية للانقلاب عليه. كما أن الأزمة المالية التي حصلت بين عامي 2008-2009 أجبرت الولايات المتحدة الأمريكية على إنفاق ملايين الدولارات لإنقاذ البنوك ومواجهة الأزمة الاقتصادية في محاولةٍ لاسترداد جزء من الأموال لدعم خزينة الدولة الأمر الذي أضعف البنتاغون.

بعبارةٍ أخرى يمكننا أن نفهم مما ذكر سابقاً أنه وعلى الرغم من وجود السياسة الامبريالية وأهدافها الإستراتيجية، إلا أن توافر الأسباب الموضوعية التي تمّ ذكرها أدى إلى فشل الولايات المتحدة الأمريكية في فرض سيطرتها الاستعمارية على فنزويلا.

الظروف التي ساعدت على التدخل الامبريالي الأمريكي

إننا نشهد اليوم تغيّراً عكسياً في المشهد في فنزويلا، وذلك نتيجةً لتوافر خمسة شروط ساعدت في عودة الامبريالية الأمريكية للتدخل في الشأن الفنزويلي هي: التدهور الاقتصادي الذي أدى إلى احتكار السلع،  وإضعاف دور حلفاء الحزب اليساري الوسطي وسيطرة الحزب اليميني المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية التي استخدمته لإشعال النشاطات الانقلابية المدعومة من المعارضة الفنزويلية على الرئيس المنتخب نيكولاس مادورو . وعدم التنوع في الصادرات، والأسواق والأزمة المالية والسياسات المختلفة التي اتّبعت خلال طيلة هذه الفترة أدّت إلى نقص الاستهلاك والإنتاج مما سمح للامبريالية بجذب الأصوات المعارضة وخصوصاً المستهلكين من الطبقة الوسطى والفقيرة، كالموظفين وأصحاب المتاجر والحرفيّين والعمّال. وتحويل البنتاغون تركيزه العسكري من الشرق الأوسط إلى أمريكا اللاتينية معتمداً على الأنظمة التي تعتبر مفاتيحه في المنطقة ومن ضمنها البرازيل والأرجنتين والأكوادور والبيرو وتشيلي والذين عيّنهم كعملاء لخدمة مصالحه السياسيّة والعسكرية في المنطقة. والتّدخل العسكري لواشنطن في العملية الانتخابية فتح الباب على الاستغلال الاقتصادي للموارد ومكّنها من توظيف حلفائها العسكريين لعزل وتطويق القومية الشعبية في فنزويلا. كما أن توافر هذه الشروط ساعد واشنطن على تحقيق مطامعها الامبريالية في السيطرة على فنزويلا، كما ساعدت القوة الأوليغارشية المحلية أو ما يُعرف بحكم الأقلية في تعزيز فعالية التدخلات الاستعمارية والسيطرة السياسية والتحكم بصناعة النفط الذي أدى إلى التراجع في إيرادات النفط واستخدام القاعدة النخبوية بدل القاعدة الشعبية التي كان لها دور كبير في التخريب المنهجي للإنتاج من جهة وسوء توزيعه من جهة أخرى، كما كان لوسائل الإعلام دور في الترويج للانقلاب العسكري اليميني المعارض الذي تبنّته الولايات المتحدة الأمريكية للتلاعب بعقل الشعب الفنزويلي وخداعه باستخدام الخطاب الإنساني والداعي إلى الديمقراطية، كما أن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن كانت تهدف إلى تجويع أصحاب الدّخل المحدود من الطبقة المؤيدة للرئيس هوغو تشافيز، وقامت بدفع وكلائها في أوروبا وفي أمريكا اللاتينية ليقوموا بإضعاف فنزويلا، بينما تقوم واشنطن بالتخطيط لانقلاب عسكري جديد، فالانقلاب العسكري الأخير الذي حصل في فنزويلا وتمّ تخطيطه وتنظيمه من قبل الولايات المتحدة الأمريكية كان نتيجةً لتوافر ثلاثة شروط هي: الانقسام الذي حصل في الجيش واستخدمه البنتاغون والمخططون للانقلاب كستارٍ ليخفوا وراءه مطامعهم الاستعمارية وليجدوا موطئ قدمٍ عسكريةٍ ليتذرعوا فيها بالتدخل الإنساني. والمساومة: أي إيجاد قائد سياسي يخوض الحوار السياسي مع خصمه ويستمر في مساومته ويكون أداتهم في معركتهم القادمة، وتجميد كل الحسابات المصرفية في الخارج وإلغاء كل القروض وإغلاق الأسواق التي تعتمد فنزويلا عليها.

ختاماً..

إن الامبريالية هي سمة أساسية للرأسمالية العالمية في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن التغيّرات الحاصلة في الأنظمة العالمية وتغيّر ميزان القوى  الحاصل في العالم أصبح يشكل تهديداً واضحاً للإمبريالية ويعيق استمرارها في تنفيذ مخططاتها وغاياتها أينما وكيفما أرادت. لقد أصبح بالإمكان إحباط الانقلابات وتحويلها إلى تغييرات إصلاحية راديكالية جذرية والتصدي للمطامع والمخطّطات الامبريالية بالسياسات الاقتصادية الناجحة وبالتحالفات الإستراتيجية القوية. لقد كانت فنزويلا عرضةً للانقلابات العسكرية لكنها استطاعت بناءَ نوعٍ من التحالفات الدولية والإقليمية، ففنزويلا تختلف عن غيرها من الدول، وهي دولةٌ مناهضةٌ للامبريالية والوضع الاقتصادي فيها يتماشى مع مختلف الطبقات الفقيرة والغنية والمتوسطة، فتقدم القوة الامبريالية وتراجعها يعتمد على الارتفاع والانخفاض الحاصل في الدورة الاقتصادية.

وإن تاريخ التدخل الأمريكي في فنزويلا يعتبر الأطول في عصرنا الحالي (18عاماً) وهو أطول من الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق، وقد ظهر جلياً كيف اعتمدت أمريكا في هذا الصراع على وكلائها في المنطقة وعلى حلفائها في الخارج ليكونوا غطاءً يخفي وراءه مطامعها الاستعمارية، كما أن الانقلابات المتكررة التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الأنظمة الشّعبية أدت إلى مجازر دموية، ولكنها فشلت على المدى الطويل في دعمها لتحقيق الهدف المرجو منها، فالوكلاء كانوا ضعفاء والأنظمة كانت خاضعة لإرادة الشّعوب، وهذه هي خصائص وسمات الانقلابات في أمريكا اللاتينية.