شويكار.. نصف قرن من خفة الروح والجدارة
في مسرحية “سيدتي الجميلة” 1969، يذهب “كمال- فؤاد المهندس” للبحث عن امرأة جميلة ليريها للملك، فتسرقه نشالة “صدفة- شويكار”، يُعجب بشخصيتها المتوحشة، ويأخذها ليعلمها آداب الإتيكيت، النص من تأليف سمير خفاجي وبهجت قمر، وهو اقتباس عن نص مسرحي لـ”جورج برناردشو” باسم “بيج ماليون”، وهي بدورها محاكاة لميثولوجيا إغريقية، عن نحات عظيم يكره النساء، ويصنع تمثالاً من العاج لامرأة جميلة، فيقع في حبها، ويزينها باللباس الغالي والمجوهرات النفيسة، ثم يتضرّع إلى إلهة الحب “فينوس” أن تحيي التمثال، النص يكشف عن مزاج راقٍ وميول أدبية رفيعة للثنائي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في تلك الفترة، فهما يستندان إلى واحدة من عيون الأدب العالمي، من أجل تقديمه للجمهور ببساطة وسلاسة في قالب كوميدي.
البعض ينظر إلى تاريخ “شويكار” التي رحلت عنّا منذ أيام، بوصفها نجمة شباك تذاكر جميلة، في حين أنها كانت مع زوجها شريكة في مشروع فني حقيقي، قدّم للعالم العربي أعمالاً فنية كبيرة سيبقى أثرها حاضراً في السينما والمسرح والدراما التلفزيونية، الشراكة بينهما لم تكن تنطوي على أي نوع من المحسوبية لأنهما زوجان. في مسرحية “سك على بناتك” التي يحفظها الجمهور العربي عن ظهر قلب، تكتفي بالظهور الصوتي ولا تحضر على الخشبة، فتخطف الأضواء بصوتها فقط، وتحقّق في عدد من الاتصالات التي نسمعها، الهاجس الدرامي المحرك للمسرحية، فالأب يريد أن يُزوج بناته في أسرع وقت ليتزوجها.
بعد ذلك بـ23 عاماً، ستشارك في فيلم “أمريكا شيكا بيكا”، الذي تدور قصته عن مجموعة من الشباب الذين يريدون الهجرة إلى أمريكا لتحقيق أحلامهم، فيقعون ضحية نصاب يتركهم تائهين في واحدة من غابات رومانيا، ليكتشفوا لاحقاً أنهم كانوا يسعون خلف سراب كبير.
المسرحية والفيلم كعينة عشوائية لمجموعة أعمال شاركت بها الفنانة الراحلة، على امتداد مسيرة فنية طويلة، كان آخرها فيلم “كلمني شكراً” 2010 ومسلسل “سر علني” 2012، تكشف أنها كانت تقدّر دائماً الموضوعات الغنية والعميقة، التي تقارب رقماً مهولاً وهو 170 عملاً فنياً قدمتها خلال مسيرتها الفنية.
تروي الفنانة الراحلة حكاية علاقتها بشريكها الإبداعي، وكيف صارحها بحبه في مكان وزمان لا يخطران على بال، فبينما كانا يؤديان مشهداً على الخشية أمام الجمهور، وهما نائمين على الأرض ينظر أحدهما إلى الآخر، يفاجئها بسؤال خرج به عن النص: “تتزوجيني يا بسكويتة”؟، فتضحك ضحكتها الشهيرة وهي تجيبه: “أيوا يا فوفو”.
أما عن وجهة النظر النقدية فيها كفنانة، فيقول الباحث طارق الشناوي: “إن الجمهور رغم ابتعادها عن الشاشة منذ سنوات، لم ينسها أبداً، بل رآها وسيظل يراها واحدة من أهم نجمات السينما العربية بشكل عام”.
وكتبت أيضاً الناقدة ناهد صلاح، التي أعدّت كتاباً أثناء تكريم شويكار في المهرجان القومي للسينما تحت عنوان “سيدتي الجميلة”، أنها كانت تنتظر أن تقابل فنانة جميلة، فيها من خفة الظل والدلع الكثير، وفوجئت بأنها أمام فنانة من العيار الثقيل، ووصفتها في كتابها بأنها “امرأة عقل” لذكائها الشديد وذهنها الحاضر واشتباكها مع كل ما يحصل حولها في العالم، وأضافت أنها فوجئت بكونها قارئة جيدة جداً، مطلعة على كلاسيكيات الأدب العالمي.
عددٌ من الفنانين شارك في تأبينها وتحدثوا عن تجاربهم معها، نبيلة عبيد تقول عنها: “كانت تحب الفن بشكل كبير، وراضية تماماً عن كل عمل قدّمته، حتى أثناء ظهورها كضيفة شرف في بعض الأعمال”.
بدورها الفنانة غادة عبد الرازق التي شاركتها آخر أعمالها السينمائية “كلمني شكراً”، قالت: إن شويكار كانت أماً لكلّ من في الأستوديو أثناء تصوير العمل، وكانت تعطي نصائحها للجميع، لم تكن متعالية أو متكبرة ومغرورة، بل كانت فيها رغم عمرها طفولة جميلة وشقاوة وحب وإقبال على الحياة، دائمة الضحك رغم ظروفها الصحية.
“شويكار” الفنانة العربية التي كسرت بجمالها الباذخ واحداً من المفاهيم السائدة عن الكوميديا، أسهمت في تغيير مفهوم الكوميديا التي كانت تعتمد بشكل عام على الممثلات غير الجميلات، مثل ماري منيب وزينات صدقي، فاختارت منطقة لم تقترب منها أيّ من الفنانتين ممن هنّ في مثل جمالها الطبيعي، لذا كانت مميّزة بشكل كبير.
بوفاة شويكار تُطوى صفحة أخرى من صفحات الفن العربي الجميل والثقيل في آن، وخصوصاً في زمن تظهر فيه أغلب “فنانات” الدراما العربية وكأنهن نسخة واحدة، على العكس تماماً من الحالة الفارقة التي صنعتها هذه الفنانة صاحبة الجمال الصارخ الذكي الواثق من ملكاته في كل وقت وزمان.
ولدت “شويكار إبراهيم” في مدينة الإسكندرية لأب من أحفاد أحد قادة جيش محمد علي باشا، وكان من أعيان محافظة الشرقية وكبار ملاك الأراضي.
بدأت مشوارها الفني في أوائل ستينيات القرن الماضي بأدوار سينمائية قصيرة ومميزة أمام نجوم كبار، ومن بينها فيلم “الزوجة 13” الذي شاركت فيه أمام رشدي أباظة، واشتهرت بأدوار الكوميديا التي قدّمتها إلى جانب الفنان الراحل فؤاد المهندس، الذي تزوجته لفترة، ليصبحا ثنائياً فنياً شهيراً قدما العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية التي ترسّخت في أذهان محبيهما، ومن بينها مسرحية “أنا وهو وهي” و”سيدتي الجميلة” و”حواء الساعة”.
تمّام علي بركات