مجلة البعث الأسبوعية

الشرق الأوسط الكبير.. البوابة الأفريقية من جديد!!

“البعث الأسبوعية” ــ سنان حسن

منذ زرع الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة والباحثون والمفكرون المنضوون تحت لواء الصهيونية العالمية يواصلون بث الأفكار والمشاريع التي تعمل على تكريس كيان الاحتلال قوة مهيمنة في المنطقة برمتها، فكان حلف بغداد وما تلاه من محاولات لوأد أي حراك قومي عربي من خلال العدوان على مصر 1956، ومن ثم إنتاج ما يسمى بالجهاديين الأصوليين بذريعة محاربة المد الشيوعي المستمدة من أفكار اليهودي زببغنيو بريجنسكي، لتأتي كامب ديفيد بين مصر والاحتلال 1978، وما تلاها من توقيع اتفاقات استسلام أوسلو ومعاهدة وادي عربة، ولكن بالرغم من كل ذلك بقيت شهية الساسة الغربيين إلى تفتيت الشرق الأوسط والدول الوطنية القومية مستمرة، ولعل ما طرحه رئيس كيان الاحتلال شمعون بيريز في كتابه (الشرق الأوسط الجديد)، في عام 1994، حين قال “لقد جرب العرب قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، فليجربوا قيادة “إسرائيل”، ما يؤكد أن الهدف الصهيوني الغربي المستمر نحو السيطرة والتوسع.

 

جولة أولى

مع بداية الألفية الثالثة، أخذت المشاريع تأخذ منحى مختلفاً مع إعادة تدوير طروحات برنار لويس وبريجنسكي ولكن بصيغ أكثر دموية، وهو ما عبر عنه رالف بيترز في مقالة “حدود الدم”، في كتابه (لا تترك القتال أبداً)، والتي تتحدث عن تقسيم العالم العربي والإسلامي إلى دويلات إثنية ودينية مختلفة، حتى يسهل التحكم فيها من قبل “إسرائيل”. وقد بدأت خيوط هذا المشهد تتكشف مع احتلال العراق 2003، وسقوط بغداد، وكانت المباشرة بالقسم الشمالي من الشرق الأوسط من بوابة جنوب لبنان 2006، وحينها بشرت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس بولادة عسيرة لشرق أوسط جديد، ولكن قوى المقاومة الوطنية اللبنانية وحلفائها أسقطت هذه الجولة.

 

جولة ثانية

مع وصول الرئيس الديمقراطي باراك أوباما في 2009، أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية جولة جديدة من التدخل في المنطقة بعيداً عن القوة العسكرية، وذلك بالاعتماد على القوة الناعمة، مستعينة، وبقوة، بمجموعات الإسلام السياسي المتمثلة بشكل رئيسي بالإخوان المسلمين، وقد كان خطابه في جامعة القاهرة الإعلان الرسمي لانطلاقتها، وكان التركيز في هذه المرة على الجزء الجنوبي من الشرق الأوسط، حيث بدأت العواصم العربية كقطع الدومينو تتساقط الواحدة تلو الآخرى بذريعة أحداث ما يسمى بـ “الربيع العربي”، وكانت مشيخة قطر الإخوانية وفرنسا ساركوزي رأس الحربة في كل ما يجري من حيث التمويل والتهويل الإعلامي والتدخل العسكري كما جرى في ليبيا، فسقطت تونس والقاهرة وطرابلس بقبضة الإخوان، ولكن استعصت دمشق، وبعد سنة واحدة على حكم الإخوان في مصر، وبالتحديد في 30 حزيران 2013، انتهت الجولة الثانية بوصول الجيش المصري إلى السلطة وتجريم الإخوان بتهمة الإرهاب.

 

جولة ثالثة

بعد تعثر المشروع الأمريكي من البوابة المصرية والسورية، انتقل العمل للبدء بجولة ثالثة وتم توكيل المهمة بشكل رسمي لتركيا العضو الأكبر في الناتو بعد أمريكا، وقد تم الانطلاق مرة أخرى من البوابة الأفريقية وبالتحديد من ليبيا التي يسيطر على عاصمتها مليشيا إخوانية، فالسيطرة على ليبيا التي تشكل عقدة وصل كبيرة بين طرفي دول شمال أفريقيا ووسطها؛ تعني تشكيل قاعدة خلفية كبرى للضغط على الشرق الأوسط، فوجود الإخوان في ليبيا مدعومين بالناتو يعني تهديداً وجودياً لوحدة مصر وأمنها القومي، وإسقاطها يعني تماماً سقوط الجزء الشمالي المتمثل في سورية ونجاح المشروع الصهيوني.

 

العمق الأفريقي

ومن جهة ثانية، فإن وجود تركيا في ليبيا سيسمح لها بالتوغل في أفريقيا الوسطى من بوابة الإسلاموية أيضاً، وقد ظهر ذلك واضحاً من الاتفاقات الموقعة مؤخراً مع النيجر وتشاد، ولكن النقطة الأخطر هي العلاقة المشبوهة ما بين أنقرة وأديس أبابا وكيان الاحتلال الصهيوني، وهنا بيت القصيد، فمشروع سد النهضة الذي ظاهره الحفاظ على الأمن المائي لإثيوبيا وتأمين موارد إضافية لزراعتها التي تدعمها السعودية والإمارات، هو مشروع يأتي في سياق أكبر وأخطر في المنطقة هدفه الأول – من دون شك – هو مصر أرضاً وشعباً، فالكيان الصهيوني لا يخفي مراميه التاريخية في مياه النيل، وهو يرى في دعم أديس أبابا بوجه التهديدات المصرية فرصة لنيل ما يزعم أنها حقوقه وتحقيق أهدافه، ولذلك فقد زودها بدفاعات جوية متطورة نصبت على مقربة من المشروع لحمايته من أي خطر مصري محتمل.

وبالتالي، يمكن القول أنه مع ضغط الإخوان في ليبيا بتوجيه تركي وإثيوبيا في النيل وبدعم إسرائيلي فإن الدولة المصرية التي تعد “الجائزة الكبرى” في مشروع الشرق الأوسط الكبير مهددة بالانهيار والتفتت كما هو مخطط إلى ثلاثة دول: سيناء وأقباط وفراعنة. بمعنى أدق.. القوة التي تعد جوهر العقد العربي “الإقليم الجنوبي” رغم كل ما فعل بها كامب ديفيد من مصائب وبقيت صامدة، هي اليوم بهذا المخطط في طريقها للإزاحة وفرط عقد كامل الشمال الأفريقي إلى دول متناثرة ومتناحرة على أساس قبلي وإثني وعشائري، ما يفسح المجال أمام تشكيل النواة الأولى من الشرق الأوسط الكبير، ولكن ماذا عن الطرف الآخر من الشرق الأوسط الموجود في آسيا؟

 

الإقليم الشمالي

 

بالتوازي مع العمل التركي في ليبيا وعمق أفريقيا، لم تتوقف أنقرة عن الاستفادة عن العامل الإخواني في كل دول بلاد الشام بدعم المليشيات الإخوانية في سورية بشكل فاضح، ورعايتهم بطريقة وقحة جعلت منهم مجرد عبيد لتنفيذ أجنداتها في ليبيا وغيرها من مناطق الصراع، وأذربيجان مؤخراً، والتي يعتبر الصراع فيها مع أرمينيا – بالمناسبة – جزءاً من مخطط الشرق الأوسط الكبير والتقسيم المطلوب في وسط آسيا.

والأمر كذلك في فلسطين المحتلة، حيث تحاول تركيا استغلال علاقتها مع كان الاحتلال الصهيوني لتكون المسؤول الأول عن الحرم القدسي وغيره من الأوقاف الإسلامية الفلسطينية، وحديثاً في الساحة اللبنانية حيث كشفت التقارير الأمنية التي تلت أحداث مدينة طرابلس وبيروت الأخيرة أن الدعم والتمويل التركي كان الأساس في كل ما جرى حينها من خلال دعم مجموعات مرتبطة بوزير الداخلية السابق أشرف ريفي وبهاء الحريري الابن الأكبر لرئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، في محاولة جديدة لمد النفوذ التركي هناك. وأيضاً في العراق، من بوابة العمليات العسكرية حيث سيطرت بالتواطؤ مع البرزاني، على مساحات كبيرة من الشمال تحت ذريعة محاربة الإرهاب!

واليوم، تحاول أيضاً الدخول إلى اليمن من خلال دعمها مليشيا الإصلاح التابعة لإخوان المسلمين وإمدادها بالسلاح المتطور والمال، ولكن ماذا عن الدور السعودي في كل ذلك؟

 

عامل خفي

في كل الخلافات والمشاكل الحاصلة من تونس إلى ليبيا إلى مصر وإثيوبيا وسورية ولبنان وفلسطين المحتلة والعراق واليمن وحتى أواسط آسيا والمتواجدة فيها أنقرة، هناك طرف آخر يشعل النيران ويغذي الصراعات ويدفعها لأن تكون فوضى مستمرة، وهذا الأمر يقوم به النظام السعودي، ففي إثيوبيا مثلاً تقول تقارير مصرية مؤكدة أن الدخول السعودي إلى إثيوبيا من بوابة الزراعة يؤثر سلباً على مصر، لاسيما وأن الأرقام تتحدث عن استثمار مساحات كبيرة جداً وتؤكد أن هناك أيادي سعودية واضحة خلف سد النهضة ولاسيما في مسألة التمويل حيث تم تسريب وثائق عن قروض ميسرة من أبوظبي والرياض لأديس أبابا لإكمال السد!! فلماذا يتم توجيه الاستثمار إلى إثيوبيا ولا يتم توجيهه نحو مصر والسودان مثلاً؟

وأيضاً الحرب في سورية، فعلى مدى سنوات الأزمة لعبت السعودية دوراً محورياً في دعم المليشيات الإرهابية، والتي كانت على خلاف كبير مع مجموعات تركيا (مليشيا جيش الإسلام وفيلق الرحمن) قبل أن تعود وتتخلى عنها لصالح أنقرة بعد تحرير الجيش العربي السوري منطقة الغوطة والجبهة الجنوبية.

 

تكامل الأدوار

إذاً، فالدور السعودي الذي يحاول الظهور بمظهر المدافع عن العمق العربي والتغول الإخواني التركي ما هو إلا مسرحية مكشوفة لتعزيز الانقسام في كامل المنطقة وتسهيل تفتيتها وفقاً لما هو مخطط أمريكيا وإسرائيلياً، فالكيانان السعودي والإسرائيلي يكملان بعضهما البعض في المنطقة، والإسلام السياسي الذي تقوده تركيا هو ضلع مهم وأساسي في المشروع وبدونه لا يمكن تحقيق حلم الشرق الأوسط الكبير.

وعليه فإن الجولة الثالثة التي انطلقت مرة أخرى من البوابة الأفريقية لإسقاط الإقليم الجنوبي في الشرق الأوسط، وإن كانت خطيرة في مراميها وأهدافها المعلنة ومهددة لوحدة العديد من دول المنطقة، إلا أنها تعطي في الوقت عينه فرصة لكل القوى الحية، الوطنية والقومية، بأن تكون مقاومتها وممانعتها وسعيها لإسقاط هذه الجولة من خلال توجيه ضربة قاصمة ومؤلمة لكل المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة المتمثل في الشرق الأوسط الكبير.