بين الشرطي الفرنسي والخليفة العثماني.. لبنان حلبة صراع!
د. معن منيف سليمان
تعدّ فرنسا القوة العسكرية الرائدة في الاتحاد الأوروبي، ويبدو أن الرئيس ماكرون أكثر استعداداً ليصبح شرطياً جديداً لتأمين المصالح الأوروبية في المنطقة، وفي المقابل يسعي رئيس النظام التركي أردوغان إلى توظيف الكوارث الإنسانية خدمة للهدف الأسمى، وهو إعادة إحياء الخلافة العثمانية وتكريس الولاءات الأيديولوجية بدلاً من الولاءات الوطنية للمجتمع العربي. وبين هذا وذاك تحوّل لبنان إلى حلبة صراع دولي بين القوى المتنافسة على ثروات شرقي المتوسط.
باتت منطقة شرقي المتوسط تثير شهية القوى الدولية والإقليمية بسبب حقول النفط والغاز، ومن هذا المنطلق عمدت فرنسا إلى تعزيز وجودها البحري في المنطقة، وفي أواخر شهر كانون الثاني 2020، طلبت رسمياً الانضمام إلى منتدى غاز شرقي المتوسط، لتبرز كقوة ردع في مواجهة مطامع أردوغان للاستيلاء على حصة من غاز المتوسط. كما أن شركة “توتال” الفرنسيّة هي بين ثلاث شركات كبرى، وقّعت عقوداً مع جمهورية قبرص للتنقيب في مياهها جنباً إلى جنب مع “إيني” الإيطالية و”إكسون موبيل” الأمريكية.
وتعمل باريس من أجل أن يتغلّب الأوروبيون على خلافاتهم الداخلية والاتفاق على إستراتيجية مشتركة تجاه ما تسميه بـ”المشكل التركي”، ودعت بهذا الشأن إلى نقاش بـ”دون محرمات”، غير أن عدّة أصوات في بروكسل ذكّرت باريس بأن “تركيا لا تزال عضواً في حلف شمال الأطلسي، وأن معاهدة الحلف لا تتضمن أية فقرة بشأن تعليق عضوية أحد الأعضاء”، هذا التردّد جعل باريس تعلّق مشاركتها من مهمة مراقبة حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا في البحر المتوسط.
واتّخذت فرنسا إجراءات بمثابة “رسائل تحذيرية” في مواجهة التجاوزات التركية في شرقي المتوسط، ففي شهر تشرين الأول الماضي، أرسلت فرقاطة عسكريّة للمياه الإقليمية لقبرص، وفي أواخر كانون الثاني المُنصرم، بعثت بفرقاطات إلى شرق البحر المتوسط.
وتقوم فرنسا بإجراء تدريبات بحرية مشتركة مستمرة وعروض مشابهة للقوة في البحر الأبيض المتوسط، مع استمرار الاستفزازات التركية التي تنطلق من الاتفاق المثير للجدل الذي أُبرم مع ليبيا على المناطق الساحلية وأثار غضب اليونان، وأنشطة التنقيب عن الغاز غير القانونية المستمرة في المياه القبرصية. ونجحت فرنسا في دفع الاتحاد الأوروبي نحو اتخاذ إجراءات عقابية ضدّ أنقرة. فحسب مصادر مُطلعة تحدّثت إلى شبكة بلومبيرغ الأمريكية، فإن الاتحاد الأوروبي “قرر فرض عقوبات على اثنين من المواطنين الأتراك الضالعين في عمليات التنقيب عن الغاز قبالة سواحل قبرص”، وفي شهر تموز عام 2019، قرّر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي وقف تمويل مُخصّص لتركيا وتعليق المفاوضات على اتفاق نقل جوي!.
تدخّل تركيا في ليبيا وإقرارها بنقل عناصر الميليشيات الإرهابية من سورية إلى طرابلس يشكّل تهديداً أمنياً مباشراً لأوروبا، لكن الأمر بالنسبة إلى فرنسا يشكل تهديداً ليس فقط لأمنها، إنما لاقتصادها ومصالحها سواء في منطقة الشرق الأوسط أو أفريقيا، حيث دول الساحل والصحراء.
من جهتها تعمل تركيا أردوغان أيضاً على إيجاد منافذ لها على منطقة شرقي المتوسط، لفرض مصالحها ولتأمين فرصتها في التنقيب التي تعارضها دول المنطقة. كما تستفيد من اعترافها بقبرص التركية وتطالب بحقوق لها في هذه الاكتشافات، وتتفق مع حكومة الوفاق الليبية على ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين، وترى في لبنان موطئ قدم ممكن لها في شرقي المتوسط، ولذا كان هذا جزءاً أساسياً من مباحثات أوغلو في بيروت، الذي قدّم عرضاً ببناء خط مشترك تركي لبناني لتصدير النفط والغاز إلى أوروبا، في محاولة لبناء خط متوسطي بديل للخط الآخر “إيست ميد”، تعبيراً عن رغبة تركيا بأن يكون لبنان شريكاً لها للدخول إلى اتفاقيات استخراج النفط.
يسعى أردوغان إلى امتلاك أكبر عدد ممكن ومتاح أو غير متاح من أوراق اللعبة الإقليمية والملفات كلها، طمعاً بثروات ونفوذ وسيطرة تحقق له أهدافه التوسعية واستعادة دور ومكانة أجداده العثمانيين، أو بأن يكون طرفاً أصيلاً على كل موائد التفاوض والتحالفات وإعادة ترتيب الأوراق، مستغلاً انفجار مرفأ بيرروت لتحقيق أهدافه المؤجلة في لبنان. كما يحاول أردوغان من خلال امتلاك تأثير داخل لبنان الحصول على أوراق مساومة مع فرنسا التي يمثل لبنان بالنسبة لها أهمية كبيرة، وهو ما يدفعها للعمل على تغيير المعادلة السياسية وتوازن القوى داخل لبنان، وخاصة مع وجود العديد من الملفات التي تشهد خلافات وتباينات بين فرنسا وتركيا، ولاسيما فيما يتعلق بالملف الليبي.
بعد انفجار مرفأ بيروت بادر الرئيس الفرنسي بزيارة عاجلة واستثنائية رسمية وشعبية، وما لبث أن أعلن أردوغان، بعد يوم من زيارة ماكرون، نيّته إرسال نائبه فؤاد أقطاي ووزير الخارجية مولود جاويش أوغلو. وهكذا تحوّل لبنان بزيارتي ماكرون وأقطاي- جاويش أوغلو إلى ساحة جديدة للصراع والتنافس بين تركيا وفرنسا، وهذا ربما سيرتب أعباء ثقيلة على لبنان والاستقرار فيه وفق ما يرى محلّلون.
عقب وصوله إلى لبنان وعد ماكرون بتقديم المساعدة المباشرة للناس، وقال: “هذا الانفجار يجب أن يكون بداية لعهد جديد”، مطالباً بنظام سياسي جديد للدولة المنهكة. كما وصلت طائرات من فرنسا محمّلة بمواد إغاثية، وسفينة حربية محمّلة بأدوية ومساعدين في طريقها إلى البلاد، وفي الأول من شهر أيلول القادم ينوي ماكرون العودة إلى بيروت لتفقد الوضع في لبنان!.
وردّاً على ذلك صرح أردوغان أن: “ما يريده ماكرون وشركاؤه هو استعادة النظام الاستعماري” في لبنان، واتهم الرئيس الفرنسي بـ”الاستعراض أمام الكاميرات”. وأرسل من قبله أقطاي على رأس وفد تركي يضمّ أيضاً جاويش أوغلو، إلى لبنان، الذي صرح بدوره بأن “تركيا مستعدة لإعادة إعمار مرفأ بيروت والمباني المجاورة له”، كما أعلن أن ميناء مرسين التركي سيكون في خدمة اللبنانيين حتى ترميم مرفأ بيروت!.
ولم يقف العرض عند ميناء مرسين التركي، بل وصل السخاء التركي إلى منح الجنسية التركية لمواطنين لبنانيين، فقد أعلن جاويش أوغلو عن استعداد بلاده منح الجنسية للبنانيين التركمان الراغبين بذلك.
في المقابل وبعد استضافته مؤتمراً للمانحين بالتعاون مع الأمم المتحدة، حصل ماكرون على تعهدات بقيمة 252.7 مليون يورو، لتقديم مساعدات للبنان على المدى القريب، حسب مكتب الرئيس الفرنسي.
بعد توقف العمل بمرفأ بيروت بسبب الانفجار الذي دمّر الجزء الأكبر منه، تمّ تجهيز مرفأ طرابلس شمالي لبنان لتأمين العمليات التجارية من استيراد وتصدير، خاصة وأن نحو 70 بالمئة من استيراد لبنان كان يتمّ عبر مرفأ بيروت. مراقبون يتوقعون أن يؤثر تحويل التجارة من مرفأ بيروت إلى طرابلس على هذا الصراع ورجحان الكفة لمصلحة تركيا، إذ تتمتّع الأخيرة هناك بنفوذ واسع.
الآن فرنسا تتخوّف من أن يؤدّي انتقال النشاط من مرفأ بيروت إلى طرابلس، حيث يزداد النفوذ التركي، إلى خلق بؤرة جديدة للصراع الإقليمي بين فرنسا وتركيا في لبنان. وهو مبدأ أقرّه رئيس الحكومة التركي الأسبق أحمد داود أوغلو الذي قال مرّة إنه “حيث يرفرف علم فرنسي ستجدون قبالته علماً تركياً”، وبناءً على ذلك عزّزت باريس وجودها العسكري في شرقي المتوسط ونشرت قطعاً حربية في المنطقة.
إن سياسة تركيا تجاه لبنان لها أهداف واضحة، ولم تبدأ في تنفيذها مع ما شهده لبنان مؤخراً من انفجارات، لكنها تستثمر هذه اللحظة للإسراع بتنفيذ هذه الأهداف، مع إضافة بعض الأهداف المرحلية الأخرى، إذ أن لها مصلحة في التمدّد في المناطق ذات الانتماء الإيديولوجي الإخواني و”تخريب” الوضع الأمني، وحجز موقع متقدّم لها على المتوسط، ما يؤكّد أن تركيا تواصل سياسة توسعية عثمانية جديدة.
من جهتها تعمل باريس على كبح جماح أطماع أردوغان، وقطع الطريق على أنقرة ببسط نفوذها على لبنان وشرقي المتوسط عموماً بصفتها الشرطي الأوروبي الذي حمل مسؤولية الدفاع عن مصالح الأوروبيين في الشرق الأوسط. وبخلاف سياسات الطاقة، فإن للفرنسيين اهتماماً طويل الأمد بالبحر الأبيض المتوسط كجزء من إرثهم الاستعماري.
إن انتقال التنافس الدولي إلى لبنان جعل منه حلبة للتنافس بين القوى الطامعة بثروات شرقي المتوسط، ما سيترتب على ذلك من تداعيات سلبية خطيرة على الوضع الداخلي اللبناني الذي يعاني بالأساس من تردّي الأحوال المعيشية والتمزق السياسي بين فئاته الشعبية.