كنز أثري عملاق.. من ينتشل “طرطوس القديمة” من سراديب الإهمال وخطر الضياع؟!
“البعث الأسبوعية” ــ وائل علي
لطرطوس القديمة وقع السحر لدى “الطرطوسيين” الذين لا يخفون تباهيهم بها لأنها ذاكرتهم وماضيهم الذي يذكرهم أن التاريخ مر من هنا، وأن الرومان والبيزنطيين والصليبيين، وغيرهم، استوطنوها، وأن صلاح الدين والظاهر بيبرس حرروها من غاصبيها التاريخيين، وأن رجال الثورات الوطنية، من الشيخ صالح العلي وسلطان باشا الأطرش وإبراهيم هنانو، وباقي رجالاتنا الوطنيين، حرروها من المحتل العثماني والفرنسي، وأن بولس الرسول عبر من كنيستها المتاخمة لسورها الشرقي إلى القدس!
ولم تكن طرطوس “المدينة الجديدة”، التي نعرفها اليوم أكثر من الحديقة التي تحيط، وتسور المدينة القديمة، ببساتينها وبياراتها وسواقيها وأنهارها من جهاتها الثلاث، تاركة للبحر أن يكون بوابتها الغربية التي تطل من خلالها نحو العالم/ ورئتها التي تتنفس منها.
وبفعل التطور والتوسع الذي شهدته عبر الزمن، ضاقت “مدينتنا القديمة” بساكنيها لتبدأ رحلة بناء “طرطوس الجديدة” التي أحاطت بالـ “المدينة الأم” فغدت اليوم المدينة الساكنة في رحم المدينة التي أنجبتها!!
لكن ما هي المدينة القديمة؟
ميرفت عثمان رئيس دائرة المدينة القديمة، تقول أن اسمها انترادوس، أي المقابلة لأرواد، أو تورتوزا، واستقرت أخيراً لتكون طرطوس؛ وهي تربض – كما تصفتها عثمان – على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. ولقد تأسست على يد فينيقيي أرواد حيث بقيت تتبع قروناً لمملكة أرادوس “أرواد”، وتناوب عليها الفرنجة والصليبيون والزنكيون وصلاح الدين في مسيره نحو شمال سورية، واستقر فيها من يعرفون بفرسان المعبد “فرسان الهيكل” الذين فروا إلى قبرص عند دخول المماليك، وسرقوا معهم أيقونة السيدة العذراء التي خطها بريشته القديس لوقا في كاتدرائية طرطوس المعروفة بـ “المتحف” الآن.
وأبرز معالمها البوابة والخندق والسّور والأبراج والكنيسة وقاعة الفرسان والدونجون والحمّام، إضافة إلى أبنية أثرية ذات طابع متنوع، وهي ملكية خاصة مسكونة أو مهجورة، وبعضها ملكية عامة، ويوجد الكثير من أبنيها التي تحمل الصفة الأثرية لوجودها على المخطط الكاديسترائي “المنظم” الذي رسم نهاية العقد الثاني من القرن العشرين. وما لم يشمله المخطط فهو عبارة عن مخالفات وتعديات تحولت، بحكم الزمن، حتى أصبحت كأنها من النسيج المعماري للمدينة القديمة، لدرجة أنه استقر في ذاكرة الكثير من أبنائها.
وتقول رئيس الدائرة: إن الواقع الإنشائي للمدينة القديمة ليس بالمستوى المأمول لكنه لا يزال تحت السيطرة، وهناك آلية محددة يتم التقيد بها في عمليات الترميم، وهناك عقارات مهجورة تحتاج لترميم، وهذا ما تعمل عليه لجنة حماية المدينة القديمة، حيث يتم العمل على إحصائها والحصول على بيانات قيد عقارية تبين المالكين لإنذارهم – في حال وجدوا – بضرورة تنفيذ عمليات ترميم عقاراتهم أو القيام بترميم العقارات، ووضع إشارة على الصحيفة العقارية ودراسة إمكانية توظيفها واستثمارها سياحياً.
وهناك عقارات تحتاج للترميم ولا قدرة مالية لشاغليها أو مالكيها، وقد بوشر بإحصائها هي الأخرى للمباشرة بترميمها من خلال تبرع المئة مليون ليرة التي قدمت لمجلس مدينة طرطوس من شركة انترادوس لصالح ترميم هذه العقارات، كما تم وضع آلية لإحصائها اجتماعياً وعقارياً لتحديد احتياجات الترميم وفق الأصول المتبعة والعمل جارٍ بهذا الخصوص.
وهناك ترميمات إسعافية تتم بالتعاون مع مديرية الصيانة والخدمات في مجلس المدينة لإجراء ترميمات وفق ما توصي به لجنة السلامة العامة لإزالة التسلخات الحاصلة وتدعيم الأجزاء الخطرة ريثما يتم الترميم أصولاً.
وتلفت عثمان إلى حالة الوعي الاجتماعي لساكني المدينة القديمة والذي لم يرتق لمستوى الشغف بالمكان والاهتمام الذاتي به، لا أن يكون مجرد مسكن يجب أن تتوفر فيه متطلبات الحياة العصرية وعلى الجهات المعنية القيام بذلك, وهذا ينسحب على ملف النظافة أيضاً.. بالمقابل نلمس لدى بعض أبناء المدينة القديمة ارتباطاً روحياً مع المكان ومع الحجر فيه وحرصاً على ترميمه.
وللحفاظ على النظافة العامة للمدينة تم توزيع سلال المهملات عند مداخل المدينة وأحيائها وساحاتها والتعاقد مع الـ UNDP لتنظيف المدينة القديمة إلى جانب عمال النظافة العاملين في المدينة، ويتم متابعة أعمال تنظيف المنطقة المعروفة بالخندق وحديقة صالة المعارض بشكل دوري، ووضع الحاويات في ساحة المدينة وتوزيع الحوايا الصغيرة في الأزقة التي لا يمكن أن تصلها سيارات القمامة.
تصورات للتحسين
وضعت المدينة القديمة تصوراً لأهم نقاط تطويرها وتحسينها، لعل أبرزها تبليط الساحة التي تتوسطها بدل الزفت انسجاماً مع الطبيعة الأثرية والاطلاع على تجارب المدن المتوسطية القديمة للاستفادة منها, واستبدال مظلات المحلات التجارية المهترئة المطلة على الساحة بالتنسيق مع دائرة الآثار بطرطوس وبما ينسجم مع الطابع الأثري للمدينة وتنفيذ حديقة أطفال مجانية ترفيهية وتزويدها بالألعاب بالتعاون مع جمعية البر ومديرية الأوقاف في عقار تملكه ضمن الخندق للحفاظ على نظافته طواعية, ودراسة تأهيل وإحياء وتوظيف الخندق وإعداد الدراسة الملائمة بما يضمن الحفاظ عليه وتحسينه وربما استثماره لاحقاً.
عقد انترادوس!!
تضمن العقد المبرم بين مجلس مدينة طرطوس وشركة منتجع انترادوس قبالة المدينة القديمة بنداً خاصاً لتحسين وتطوير الواجهة البحرية لمدينة طرطوس القديمة، لكنه تأخر لأسباب عديدة، وقد تم مؤخراً إعداد دراسة جديدة للترميم وفق الشروط الآثارية سلمت لمجلس إدارة انترادوس لكنها لم تنفذ وقد تقرر بطلب من المحافظ تفعيل الدراسة لتنفيذها على حساب الشركة!؟
نُزُل سياحي
نفذ مالكو أحد العقارات الأثرية في المدينة القديمة ترميم عقارهم وإعادة تأهيله لتوظيفه كفندق سياحي أثري، وكان مقرراً افتتاحه ووضعه بالاستثمار في نيسان الماضي، لكن الظروف الصحية السائدة في البلاد أجلت افتتاحه، وهذا ما شجع الكثير من مالكي العقارات في المدينة القديمة على ترميم “النُزُل” والتوجه نحو هذا النوع من الاستثمارات بعد إعادة تأهيل عقاراتهم لتوظيفها سياحياً.
نخسر مدينتنا القديمة!
مع تقديرنا للجهود التي تقوم بها الجهات ذات العلاقة فإن ما يقوم به مجلس مدينة طرطوس ومعه لجنة حماية المدينة القديمة لا يكفي ولا يعدو أن يكون ذراً للرماد في العيون لا أكثر ولا أقل، ولا يتجاوز أن يكون أعمالاً مكتبية بيروقراطية لن تستطيع المحافظة على مدينة تاريخية بحجم طرطوس القديمة لا تزال واقفة رغم كل شيء، ويحق لها، بل يليق بها، أن تكون كنزاً أثرياً ثميناً وثروة حقيقية لو أحسنا المحافظة عليه وتركيز الطاقات نحوه، وهذا يحتاج لإمكانيات أكبر بكثير من إمكانات مجلس بلدي يكفيه ما يعانيه من مشكلات ونقص في الإمكانات. ولا ننسى في هذا السياق كيف خسرنا في تسعينيات القرن الماضي قرابة ستة ملايين دولار قدمتها اتفاقية التوءمة التي وقعت في حفل استعراضي بديع مع مدينتين اسبانيتين (أليكانتي وتورتوسا) في أقبية طرطوس القديمة، بغرض دعم عمليات الترميم والتوظيف الاجتماعي وإحياء عدد من المهن التراثية والبحرية، فما عرفنا إن أتت الأموال، ولا كيف أنفقت، ولا المدينة القديمة رممت!!
ولما كانت “المياه تكذب الغطاس”، فإن ولوج الزائر لحرم المدينة الساحرة سيجعله يصاب بالذهول بلا شك لهول الإهمال الصادم الذي ترزح تحته وتعانيه مدينة الأمجاد والتاريخ خدماتياً وآثارياً واجتماعياً، وما آلت إليه أقواسها الغوطية الفريدة من تداع وسقوط وانهيار أجزاء من أقبيتها وتصدع جدرانها التي تتآكل بفعل الأعشاب التي تعشش فيها، إلى جانب التعديات الصارخة على آثارها والمخالفات التي تنتشر كالسرطان بدون حسيب أو رقيب، وأعمال الترميم التي يجريها بعض المالكين على عقاراتهم التي تنسف النسيج المعماري وتتنافى مع أبسط قواعد وأصول الترميم الأثري!!
المحزن والمؤسف أن الانهيار الذي تشهده طرطوس القديمة يتم على مرأى ومسمع الإدارات المعنية، من آثار ومدينة قديمة ولجنة حماية المدينة القديمة ومجلس مدينة ومحافظة ووزارة ثقافة ورئاسة حكومة، دون أي فعل استثنائي ينتشل مدينتنا القديمة من سراديب الإهمال واللامبالاة، وخطر ضياع هذا الكنز الأثري العملاق وخسارتنا له والوقوف على أطلاله.. وهذا بحد ذاته سؤال كبير!!