القصة القصيرة جداً.. مولود يحتضر باكراً
بدأت القصة القصيرة جدا، كنوع أدبي مستجد تشق طريقها بثقة في المشهد الثقافي السوري أواخر القرن الماضي على يد عدد من الكتاب الشباب المتحمسين للتجديد وتحريك المياه الراكدة في بحيرة الأدب السائد ممن وجدوا فيه فرصة لتأكيد حضورهم الإبداعي، دون الحاجة للغرق في تفاصيل حكائية تطلب نفسا ومقدرة على بناء عوالم متشعبة ومعقدة بعناصرها المتعددة، بتشجيع من بعض النقاد والمنظرين، فالوليد الجديد يقوم على التكثيف والإيحاء الرمزي والاقتضاب بأقل الكلمات المعبرة تصل القصة إلى هدفها وغايتها دون إهدار للمزيد من الحكي.
لكن الاستسهال الذي قوبل به هذا الفن من بعض رواده جعل دور النشر تغص بالغث أكثر من السمين من هذا المنتج، مستخفين بمتطلباته التي أهمها مقدرة الكاتب على خلق المفارقة المدهشة والصادمة للقارئ والمؤثرة فيه، والسيميائية المحورية للعناوين ودلالة رمزية للمحتوى، والتي تفترض وجود كاتب استثنائي قادر على تطويع اللغة بأسلوب عفوي ضمن انزياحات وايحاءات لإثارة قضايا وجودية فلسفية، كما هي أسلوبية جبران خليل جبران مثلا، والذي يعتبر من المؤسسين دون قصد لهذا النوع من الأدب.
التطور الكمي اللافت الذي شهدته ما اصطلح على تسميتها اختصارا “ق ق ج” لم يعطها شرعية الوجود والاستمرار كجنس مستقل بذاته، كما سعى البعض للإيهام بذلك، بسبب إغفال أغلب كتابها، أهمية الوعي النظري والجمالي بمقوماتها فقدموا نصوصا تفتقر للقيمة الإبداعية التي تخولها الارتقاء لسوية ما أتت به الرواية أو القصة العادية والتهكمية الساخرة. لذلك لم تلبث أن شح بريقها مع تراجع حدة “البروباغاندا” الدعائية التي رافقت فورتها الأولى وخيبة رجاء المتلهفين لموطئ قلم في الساحة الأدبية. رغم مواءمة المرحلة لهكذا فن مقتضب لا يحتاج كثير وقت وعناء حاله كحال الومضات “الفيسبوكية” التي بدأت تظهر كمتنفس بديل عن الورق بالنسبة لكثير من الأدباء المعروفين، والمحدِثين على حد سواء.
ورغم أن هذا الفن الأدبي ظهر في سورية قبل عشرين عاما تقريبا تحت مسمى “ق ق ج” للإيحاء باستقلاليته، لكن بداياته كأسلوب كتابة غير مؤطر بوعي معين يعود إلى فترة زمنية أبعد من ذلك بكثير. يختلف الباحثون حول مكان ظهوره الأول فمنهم من يعيده إلى الكاتب الأمريكي ارنست همنغواي 1925 مع نصه الأشهر المعنون بـ”قصة قصيرة جدا” ونصه يقول: “للبيع حذاء لطفل لم يلبس قط” وهو أشبه بإعلان تجاري. ويذهب آخرون إلى أوروبا مع الكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت صاحبة كتاب “انتحاءات” 1٩٣٩، وينسبها غيرهم إلى أمريكا اللاتينية في العقود الأولى من القرن العشرين على يد الغواتيمالي أوغستو مونتيروسو، ومنها انتقل إلى المغرب العربي لتشهد بداياتها العربية من هناك كما يقول الناقد المغربي سعيد عبد الواحد، ومنه إلى المشرق العربي. في حين يذهب الكاتب العراقي باسم عبد الحميد حمودي إلى المحامي العراقي نوئيل رسام الذي كتب القصة القصيرة جدا في أربعينيات القرن المنصرم. لكن معظم المنظرين أسقطوا من حساباتهم أسبقية جبران خليل جبران المؤسس الفعلي الذي سار على نهجه معظم مريدي “ق ق ج” لاسيما في كتبه “رمل وزبد والتائه والمجنون”، وغيرها.
وإن كنت قد أرجعت سبب تراجع حضور القصة القصيرة جدا إلى الاستسهال والعجز عن تقديم ما هو استثنائي في هذا المضمار، إلا أن هناك أسبابا أخرى ترتبط بالقارئ نفسه المخول، وحده دون غيره، منح شرعية أي فن من الفنون الأدبية، فما كتبه جبران صنِّف على أنه نخبوي أي موجه للقارئ الاستثنائي القادر على فك رموز الجمل وقراءة مابين السطور، ولهذا ظلّ أدبه بمجمله محصورا بالشريحة الواعية، ودون تصنيف من حيث الأجناس الأدبية، رغم ما كتبه من شعر ورواية وحيدة، فالإنسان العربي عموما معجون بالفطرة على الحكائية السردية وما يتخللها من إثارة وتشويق، منذ السير الشعبية وألف ليلة وليلة وغيرها وحتى في الشعر ديوان العرب، نجد حكائية، ولهذا فهو غير مؤهل لتقفي رموز ودلالات الـ” ق ق ج” والتهويمات العبثية التي جاء بها المتحمسين لفلسفة المواقف الحياتية عبر مفردات والغاز تطلب منجمين لفك طلاسمها، الأمر الذي عجل من كبح جماح فورتها الأولى، وأعادها إلى الحالة المزاجية والنخبوية التي اتسمت بها.
وللمقاربة أكثر يمكن إجراء مقارنة بسيطة بين ما كتبه نجيب محفوظ أو حنا مينه، وما كتبه جبران خليل جبران، فالأخير يصنف كـفيلسوف وأديب انحصر التهافت على نصوصه ضمن فئة مثقفة إلى حد ما، أي قادرة على التحليل وقراءة فلسفة مابين السطور العصية على سواد الناس العامة، في حين غاص محفوظ ومينه في قاع المجتمع والحارات والمقاهي الشعبية ومن أجوائها استمدا نصوصهما التي تلقفتها معظم شرائح القراء العرب لما اتسمت به من بساطة ووضوح في المنولوجات والجمل السردية المعبرة عن حياتهم دون مواربة أو تضمين، وهذا ما جعل الرواية دون غيرها الأقرب إلى عقل القارئ وتفكيره وانفعالاته.
هذه الفوارق بدأت تتوضح شيئا فشيئا لأغلب المتحمسين للقصة القصيرة جدا الذين وجدوا أنفسهم منفردين ينفخون في قرب مثقوبة، أو يكتبون لأقرانهم ومعارفهم، مما حدا بهم لإعادة النظر في خياراتهم والعودة لتلمس طريق الرواية أو الشعر كحالة وجدانية تتواءم والـ”ق ق ج”. وهكذا أخذ مريدوها يهجرونها الواحد تلو الآخر حتى لم يبق منهم إلا قلة عجلت ظروف الحرب ومصاعب النشر خلال السنوات العشر الأخيرة من تبديد أحلامهم بنفخ الروح في وليد راح يحتضر باكرا.
آصف إبراهيم