الوباء يكشّر عن أنيابه.. شبح يطارد الأدباء
أرخت جائحةُ كورونا بظلالها على جميع مناحي الحياة على سطح الكرة الأرضية. ولأن الشعر ابن الحياة لحظة بلحظة ولا يختلف اثنان على قدرته الراهنة في التفاعل مع ما يحدث اليوم، كان وباء كورونا الذي حلّت لعنته على الجميع موضوعاً شديد الإغراء لكل الآداب، والشعر بشكل خاص من شعر شعبي وفصيح، إضافة إلى النصوص الفنية النثرية، وهو أمر برأي الشاعرة وضحى يونس ليس بمستغرب على الشعر الذي هو أسرع الفنون استجابة بسبب طبيعته المتفاعلة مع الحياة والمنفعلة بقضايا الإنسان، وهو أيضاً أمر ليس بجديد على الشعر، حيث ندّد المتنبي بالحمّى، ونازك الملائكة بالكوليرا.
الشعر شجاعة
ولأن الشاعر حسب قول أحد الأدباء هو “ضوء وشيء مجنّح ومقدّس” تبيّن وضحى يونس ضرورة أن يعلو الشعر فوق الحدث ويتجرّد عن الهوى ليكشف حقيقة الحدث ويتقصّى أبعادَه الخفية، مع تأكيدها أن وباء الكورونا مغرٍ للشعر لأن الشعر شجاعة في الاقتحام، والشاعر محكوم بالبحث عن الحقيقة ومن طبعه القلق والاحتجاج والتساؤل والتمرد والكشف والنبوءة. من هنا فإن كورونا الوباء أو التحوّل بمعنى الحدث المفصلي في التاريخ المعاصر يستفزّ جرأةَ الشاعر والأديب على اقتحام حقيقته، وهو الذي بدأ منذ ظهوره يطالب بإعادة النظر بكل شيء وتغيير المعرفة الصدئة إلى معرفة جديدة حتى لو كلفنا الأمر الاصطدام مع أفكار قد تبدو للوهلة الأولى غريبة ومستهجنة ومرفوضة بالمعايير العمياء، حيث القبول التدريجي آتٍ لا محالة، لذلك فإن الشعر في استجابته لفعل الكورونا يجب أن يتجاوز كونه ردة فعل إلى فعل تأمّل وخلق وتفسير واستشراف لأن الكتابة الآنية هي تداعيات آلية للحدث، تأثيرها لحظي، وسماتها الانفعال والانطباعية، مع اعترافها بأن الأدب والشعر الحقيقيين لا ينضجان إلا في ظل تجربة تتحوّل إلى مدرسة أو مذهب، لذلك إذا أراد الشعر أن يكتب عن كورونا فشرطه الجدية ونضوج الرؤية والوعي، واحتواء شحنات جمالية تطهيرية تصهر الألم والأمل في بوتقة واحدة، تحرّر الإنسان من ألم الذكرى والعوز والموت واليأس والبؤس.
وتوضح يونس أن الإغراء بين كورونا والأدب متبادل، فشبح كورونا سيطارد الأدباء، وسيكون الأدب هو أقدر الفنون على تخليد الكورونا لأن العلم سيقف بالكورونا عند تخوم العقل، بينما الأدب سيحلّق بكورونا في سماوات العاطفة الإنسانية والوجود البشري، ففي الوقت الذي سيحدّ العلم من انتشار كورونا ويجفّف منابعه سيعمل الأدب والشعر –برأيها- على تمديده وتوسيعه في الزمان والمكان، وسيحوّله إلى قصائد وروايات وقصص ولوحات وأفلام، وإن كانت ترى أن أصلح الأنواع الأدبية لتدوين كورونا وتخليده كحدث جلل هي الأنواع الأدبية التأملية الرمزية، وفي مقدمتها الرواية، لأنها تمتلك أدوات ملائمة بدءاً من المساحات الحرة وانتهاء باللغة الجديدة، مروراً بأدوات فنية غير تقليدية ولا يمكن امتلاكها إلا عبر عمقين مهمين جداً هما العاطفة والفكر.
الحياة والموت
عندما يكشّر الوباء عن أنيابه متربصاً بالحياة، وفريسته من البشر، يقف أمامه الفن، برأي الشاعرة غيثاء قادرة، في محاولة لكسر شوكته ومقاومة وحشيته وتوثيق خرابه، حتى تعي الأجيال القادمة أن الحياة تقوم على ثنائية يتصارع طرفاها باستمرار هي الحياة والموت. وفي زمن الكورونا، وهو كغيره من أزمان مأزومة نعيشها ومازلنا، تبقى أبواب الشعر مشرَّعة على الخيال الذي يبحث عن الربيع في عزّ البرد، وعن الحياة في غمرة الموت، فيمنحنا الخيالُ في زمن الوباء فرصة لتأمّل السحاب الذي يدنو منَّا رويداً رويداً ويستلُّنا بهدأته المعتادة ويطير بنا في عوالم من جمال يبدّد سواد ما حلَّ من وباء، مبيّنة أن الشعر لم يتوقف يوماً، ووظيفته أن يستبقي الأمل ويغازل الأحلام ويوازي في صورته صور الموت والتلاشي التي نراها بشكل يومي على شاشة التلفاز، ليتحوّل الشعر إلى واحة نستظل بفيئها وعريشة من أمل، مؤكدة أنه في زمن الأوبئة لم يُذْبح الشعر، لكن عجزه وقصوره هما الإشارة الإنسانية الأكثر رهافة وصدقاً لوضعية الإنسان المعاصر الذي ذكَّرته الأوبئة بأن غرور تفوقه التكنولوجي ما زال بعيداً عن المصداقية، منوهة بأن الوباء ألهم بعضَ الشعراء والكتّاب، فأجمل كتابات شكسبير كانت أثناء تفشّي وباء الطاعون في نهاية القرن السادس عشر والذي أودى بحياة عددٍ من أفراد أسرته، وكان وباء الكوليرا موضوعاً لقصيدة كتبتْها الشاعرة العراقية نازك الملائكة:
في شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموتْ/ الصمتُ مرير/ لا شيءَ سوى رجْعِ التكبيرْ/ حتّى حَفّارُ القبر ثَوَى لم يبقَ نَصِير/ الجامعُ ماتَ مؤذّنُهُ/ الميتُ من سيؤبّنُهُ لم يبقَ سوى نوْحٍ وزفيرْ..
في حين تشير قادرة إلى أنها كتبت في هذه المحنة:
كيف أعزف قصائدي/ وقد محاها الأنين؟/ وحقول الدمعات/ تمتد وتزرع بيدرها وروداً من فصل الريح/ حمَّى تنتشر وتقيم/ لا لمسَ لا قُبَلاً للوجهِ والأيدي.
فرصة لترتيب الأفكار
أما الشاعرة فاتن ديركي فإن فترة الحظر الإلزامي ومن ثم الطوعي الذي تعتمده كانت وما زالت فرصة لترتيب أفكارها وخططها والكثير من مظاهر الفوضى الداخلية التي تراود الكاتب كل حين، مشيرة إلى أن الأديب يختزل كل المظاهر الحياتية التي تحدث حوله في عقله وقلبه النابض بأحاسيس شتى، فيراقب الوضعَ العام، متأثراً بما يلمسه من ردود فعل ومشاعر إنسانية تعتمل في الذات البشرية، فهو يكتب بناءً على هذا التأثر من المحيط الواسع الذي يلهمه بأفكار كثيرة ونصوص يطلق لها قلمه ليؤثر بالتالي على هذا المحيط العام الذي يشعر من خلال كلماته، مؤكدة أن كل حدث في الحياة يُعتبر محرضاً للكاتب على الكتابة لأن الكاتب ابن بيئته ولا يمكن له أن يفكّر بمعزل عن المجتمع، وبالتالي فإن فيروس كورونا كان وما زال حدثاً بارزاً ليس على الصعيد المحلي فحسب بل على صعيد العالم أجمع، ومن الطبيعي أن يتأثر الشاعر والروائي والقاص به، مطلقاً لقريحته العنان ولمشاعره وأحاسيسه التعبير عن ردود فعل تعتمل في نفوس الناس فيحسّ بها ويرسمها بالكلمات من خلال تجسيد مشاعر القلق والتوجس من هذا المرض وأمنية النجاة منه، منوهة بأن الحظر الإلزامي منحَها وقتاً كافياً لكتابة رواية تتحدث عن هذا المرض وما أحدثه من مفارقات وقصص، يداخلها الكثير من المواقف والعلاقات الإنسانية والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وما إلى ذلك.
وكشاعرة أيضاً ومثلها مثل الكثير من الشعراء ألهمها الوضع الذي يتبرّم منه الناس بطرق شتى بقصيدة شعرية تعتبرها طريفة حملت عنوان “عيد الأم في زمن الكورونا” حين تزامن عيد الأم مع فترة الحظر الإلزامي، وحرصاً منها على عدم الخوض في الموضوع بطريقة سلبية تبعث القلق والخوف في نفوس الناس آثرت الإشارة إلى هذا القلق بطريقة لطيفة فيها طرافة، مع تأكيدها على ضرورة التباعد لتجنيب أحبائنا المرض:
في عيدِ أمّ أتى من قلبِ بركانِ/ لا لمسَ لا قُبَلاً للوجهِ والأيدي/ أمي أيا شمسنا بالحبّ تحملُنا/ في عيدِك أنحني عن بعدِ في حَذَرٍ/ خوفاً على خفقةٍ تحيا بوجداني.
أمينة عباس