الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

التّخفّي

عبد الكريم النّاعم

قال: “أتذكر ما روتْه بعض كتب الأدب الشعبيّ، كألف ليلة وليلة، وما شابهها، أنّ السلطان كان أحيانا يقول لوزيره، قم يا وزير لنتخفّى، ونذهب إلى الناس، فنطّلع على أحوالهم”؟

قال: “بلى أذكر، فما سببك تذكّرك أنت”؟

قال: “خطر ببالي لو أنّ الذين يُكلّفون بتسيير الشؤون العامّة للناس، لو يتخفّون ويذهبون إلى ميادين عملهم بأنفسهم، فلا يكتفون بما يُقال لهم، أو عنهم، وذلك من أجل تقويم الاعوجاجات التي عمّتْ وطمّتْ”.

أجابه: “على اعتبار أنْ ليس لدينا ما يشغلنا عن السياحة التحليليّة، في مثل هذه المرويّات، تعال لنفكّك ما في داخل الحكاية”.

قال: “هات يا أبو التفكيك”.

أجابه: “ابتعد بنا عن شيء اسمه السخرية المبطّنة”.

قال: “والله أنا لا أسخر”.

أجابه: “المهمّ، لقد كان السلطان حين يقوم بذلك، هذا إذا كان للرواية أصل، وليست مجرّد حلم شعبي، عبّر عن تمنيات الناس، كان السلطان ووزيره يغيّرون ثيابهم، ويلبسون لباس العامّة من الناس، كي لا يلفتوا نظر أحد إليهم، وبذلك يتحرّران ولو لوقت قصير من رسميّات اللّباس، ومن موجبات التقيّد به، فيشعرون بشيء من تنسّم هواء، ربّما لم يتنسّموه من قبل، وكانوا يذهبون إلى مواقع تجمّع الناس، كالأسواق، والحمّامات، وما شابه، فيسمعون كيف يتكلّم الناس بحريّة لا يقيّدها وجود سلطة، وقد يستمعون إلى ما يشكو منه عامّة الخلق، فتصل إلى آذانهم، ولا يحجبها حاجب، كما لا يصفّيها مَن يريد تجميل الأمور، لأنّه حريص على ألاّ يُزعج أذُن مولاه بسفاسف شعبيّة، وتقوّلات لا قيمة لها، أو تخرّصات يُفترض أن لا تخدش سمع السلطان ممّا قد يسبّب له بعض الإزعاج، ثمّ هما مدرِكان أنّهما ساعة يشاء السلطان سوف يعودان إلى مواقعهما، وما هما فيه ليس إلاّ لعبة قد تزيح بعض السأم عن صدر “مولانا”.

قاطعه: “أليس جميلا أن يحدث هذا، ولو في الحكاية، فلماذا لا يستفيد منها الذين ائتُمنوا على مواقع وُجدت أصلا لخدمة النّاس، لا للجلوس على الكرسي، والتمتّع بما قد يكون فيه من مكتسبات، بعضها معروف، وبعضها الآخر لا يعلمه إلا الله ومَن يُشارك في رسم تعاريج تلك الطرق الآثمة المعوجّة”؟!      أجابه: “يا صديقي، ما جرى في الحكاية، يناسب زمنها، بكلّ معطياته، هذا إن كان فعلا قد جرى شيء من ذلك، أمّا اليوم فالأمر مختلف، لاسيّما بعد انتشار صفحات التواصل الاجتماعي، إذ ما تكاد تحدث حادثة لافتة، في أيّ بقعة من أرضنا حتى تجد طريقها إلى النشر، وهذا يا صديقي على أهميّة حدوثه، يجعلنا أكثر عرضة لتلقّي ما قد لا يسرّ، وبذلك تتراكم المشاعر السلبيّة في نفوسنا، فما ندري ما الذي يؤلمنا، ولا ما الذي أوصلَنا إلى مانحن عليه، لقد ضاقت علينا فسحات الراحة، فلا في بيتك أنت بمعزل، ولا حتى حين تأوي لفراشك بحثا عن فُرجة للنّوم، هذا العالم كلّه مفتوح بين يديك، والمؤذي أنّ معظم المجريات المحيقة بهذا الكوكب هي من النّوع الذي يسبّب الصداع، والتوتّر، والتأفّف، لقد سمّموا مجاري أنفاسنا.

أعود للفكرة المركز التي قصدْتَها فأقول أنّ كلّ ما قد تظنّه أنّه لم يسمع به هذا المسؤول أو ذاك هو من المتداول، وما عليك إلاّ أن تتصفّح صفحات التواصل الاجتماعي حتى يطالعك فيض من الشكاوى، إذن العلّة ليست أنّ ثمّة ما يحتاج للتخفّي لمعرفته، بل العلّة فيمن عُهد إليه بتلك الأمانة، فلم يكن أهلا لصدقيّتها، ولا أهلاّ لأن ينحاز إلى قضايا الناس، فشُغِل بما يزيد ما معه، وعلّك لا تنسى أنّ قسماً كبيرا من هؤلاء وُضعوا في مواقعهم وليس في جيوبهم ما يكفي لمصروف يوم واحد، فإذا بهم بعد فترة، من عدم التخفّي، حين يغادرونها، وقد أصبحوا من أصحاب الثروات، والعقارات، وقطعوا ذلك الحبل السريّ بين المواقع التي جيءَ بهم منها، وبين ما أصبحوا عليه، الأمر يحتاج لمعالجة توازي حجم التضحيات التي قدّمها هذا الشعب.

aaalnaem@gmail.com