العنصرية في أمريكا.. خطايا الماضي
عناية ناصر
بدأت أحداث العنصرية والكراهية، والتي نشهد تصاعدها اليوم، عندما قدّم كولومبوس الولايات المتحدة للأوروبيين قبل خمسمائة عام. فقد تمّ جلب العبيد من أفريقيا للعمل في مزارع العالم الجديد حتى أصبحوا في وقت لاحق العمود الفقري للاقتصاد الأمريكي بأكمله. تدريجياً، تزايد اعتماد المجتمع الأمريكي على العبيد الأفارقة، ولكن لسوء الحظ ظل وضعهم الاجتماعي كعبيد هو نفسه. هناك العديد من الأسباب لذلك، أحد هذه الأسباب هو أنه من الناحية التاريخية لم يُنظر إليهم أبداً على أنهم وضعوا الأساس للاقتصاد الأمريكي.
الماضي الاقتصادي للعبودية
تقسم الولايات المتحدة إلى قسمين جنوبي وشمالي بناءً على اقتصاداتها، فقد قدم الجنوب ذو الأرض المسطحة والتربة الخصبة والمناخ المناسب مجالاً مثالياً للمزارع، وخاصة محاصيل القطن والقصب والتبغ، وهذه المحاصيل كانت تحتاج إلى عمالة كثيفة، وقد تم استيفاء هذا الشرط بجلب العبيد من أفريقيا والذين أصبحوا قلب اقتصاد الجنوب.
ونظراً لأن الطلب على القطن من الجنوب كان ينمو جنباً إلى جنب مع الاختراعات الجديدة مثل محالج القطن، فقد تضاعف الطلب على المنتجات التي زادت في النهاية من الطلب على العبيد. هذا لا يعني أن الشمال نما بشكل مستقل عن العبيد، فقد كان الشمال يعتمد بشكل كبير على نظام العبودية الاستغلالي هذا، لكن الثورة الصناعية بدأت في الشمال بمكننة صناعة النسيج.
كان الصناعيون في الشمال يعتمدون على الجنوب للحصول على المواد الخام، وهذا هو السبب في دعم الجنوب من قبل البنوك في نيويورك وبريطانيا لشراء العبيد واعتبارهم ملكية خاصة، ولكن مع التصنيع والتحضر السريع الذي تغذيه الاختراعات الجديدة، قضى الشمال ببطء على الحاجة إلى العبيد ورحب بالحاجة إلى العمال.
سياسة العبيد
قبل الحرب الأهلية الأمريكية، كان الجنوب والشمال على معرفة جيدة ببعضهما بعضاً بسبب اقتصاداتهما المتشابكة، وتم الحفاظ على توازن دقيق للقوة بين شطري أمريكا. حوالي عام 1820 كان لدى الشمال إحدى عشرة ولاية مع صناعات متطورة مثل الولايات الحرة، وكان الجنوب إحدى عشرة ولاية زراعية، كانت بمثابة ولايات للرقيق. بدأ الصدع بين الاثنين بتأسيس ولايات جديدة نحو الغرب، والخلاف حول طبيعة الولاية سواء كانت ولاية عبيد أو ولاية حرة مثل “ميسوري” التي أرادت الانضمام إلى الاتحاد كولاية رقيق.
بدأ التوازن بين ولايات العبيد والولايات الحرة يتحوّل إلى منافسة في السياسة، حيث بات الجنوب يستخدم سلطته في العبودية للسيطرة على السياسة الأمريكية. بدأت ممارسة الضغط لإنشاء ولايات جديدة كولايات عبيد وتمرير قوانين كانت مؤيدة للرق والتي بلغت ذروتها في عام 1857 مع حكم المحكمة العليا الشهير في قضية “دريت سكوت” التي قضت بأن السود ليس لديهم حقوق يطالبون بها في الولايات المتحدة. لم يكن هذا مقبولاً للصناعيين في الشمال. ومن أجل إنهاء الهيمنة الجنوبية في السياسة، أراد الشمال إنهاء العبودية على أساس أنها غير أخلاقية وقاسية لأنها كانت العمود الفقري لاقتصاد الجنوب.
إذا حاولنا رؤية الصورة الحقيقية للحرب الأهلية الأمريكية، فإن الشمال لم يكن لديه نية لإنهاء العبودية على أسس أخلاقية، والسبب الحقيقي هو أنه أصبح صناعياً، ولم يعد يعتمد على العبيد مباشرة.
على الرغم من إنهاء مؤسسة العبودية، إلا أن المعاملة العنصرية للعبيد لم تنته أبداً، وحتى الآن يتحمل السود العبء الأكبر من التمييز العنصري. كانت هناك العديد من النضالات للتحرر من العبودية ففي عام 1967 شهدت المناطق الأمريكية دماراً كبيراً بسبب أعمال الشغب.
بدأ الرئيس الأمريكي آنذاك ليندون جونسون في تفعيل لجنة “كيرنر” لفهم السبب الجذري لأعمال الشغب. على الرغم من أنه اعتبر في البداية أنه عمل من قبل السود، لكن في وقت لاحق تأكدت اللجنة من أنه كان هناك بالفعل انتشار عدم المساواة العرقية في جميع أنحاء أمريكا والتي تتطلب إجراءات حكومية فورية، وهذا دليل تاريخي رئيسي يعود إلى عام 1967.
الآن وفي عام 2020 لا تزال هذه المشكلة تشكل تحدياً كبيراً للولايات المتحدة الأمريكية، إذ تظهر الاحتجاجات والمظاهرات الأخيرة التي أعقبت مقتل جورج فلويد بقايا الفوضى السابقة وتغلغل التفاوت العنصري الراسخ.
في السابق قام عدد من علماء النفس بتعداد أسباب تطور المواقف العنصرية جوهرها أنها تتطور منذ سن مبكرة، حيث يتعلم الأطفال باستمرار هذه الأشياء التي تؤدي بهم إلى تطوير الخوف أو الكراهية للمجتمع الآخر، وبالتالي يجب معالجة المشكلة بطريقة تعتني بالأفراد من سن مبكرة.
المستقبل الأفضل
إن قضية العنصرية متعددة الجوانب لأنها تشمل جميع شرائح الحياة الاجتماعية، في هذا السياق يجب إحداث تغيير على المستوى النفسي جنباً إلى جنب مع إعادة التنظيم الاجتماعي والاقتصادي من أجل وضع حد لوصمة العنصرية، وهذا يتطلب المشاركة الفعالة لمختلف المؤسسات الاجتماعية القادرة على التأثير في عقل الناس وتصوراتهم، تشمل الأسرة والمدارس والمجتمع المدني والمؤسسات الدينية.
يجب أن يبدأ هذا مع الأسرة لأنها المكان الأول الذي تبدأ فيه عملية التنشئة الاجتماعية، والمكان الذي تتجذر فيه المعايير الاجتماعية في أذهان الأطفال، ثم تتبعها المدارس من أجل أن تغرس لدى الأطفال أهمية التنوع، وأن يتعلموا كيف أن وجود اختلافات في الآراء أمر ضروري ولكن تجاهل وإهانة من لديهم آراء متناقضة ليس هو الشيء الصحيح. وأخيراً، يجب أن تلعب المؤسسات الدينية مثل الكنيسة أيضاً دوراً في عملية التنشئة الاجتماعية لأن الدين له أثره المهم في النمو والتطور.
إن نظام العبيد بأكمله له جذوره في الماضي، لكن السلوك العنصري الذي لا يزال يتجلى في المجتمع هو نتيجة لعملية التنشئة الاجتماعية، والاحتجاجات الأخيرة في جميع أنحاء العالم، سواء عبر الإنترنت أو خارج الإنترنت، هي مثال حقيقي أكد الحاجة إلى التوحد وإحداث تغيير في العالم الذي نعيش فيه. يجب أن يُفهم أن الكفاح من أجل العنصرية لا يقتصر على التشريع فقط، بل يحتاج إلى تغيير كلي كامل يجب أن يشمل جميع جوانب العنصرية. يجب أن ينتقل قادة العالم وشعوبه إلى واقع لا توجد فيه أحكام مسبقة أو قوالب نمطية، بل تكريس قيم الأخوة وتعزيزها والاحتفال بتنوع البشر. لقد انتهى نظام العبيد منذ زمن طويل، ويجب أن تنتهي العنصرية الآن.