العودة بالإكسير
“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين
“لا تدع يد الشتاء الخشنة تمحو عنك صيفك قبل أن تتحول أنت إلى قطرات” ويليام شكسبير
نبتة الخلود في يد جلجامش
أكثر ما كان يميز أسطورة جلجامش الحديث، في فصولها الأخيرة، عن نبتة الخلود التي أعطاها له أوتنابشتم ليتجدد عطاؤه.. الحكاية ها هنا، وليتجدد الأمل في مفاصل الروايات دائماً وأبداً على أن الهبات العظيمة التي يعود بها الأبطال في حكاياتهم ستكون دائماً مثار تعلق أفئدة الصغار والكبار بالحكاية. في الحكاية، يعود البطل دائماً إلى نقطة البداية، إلى أهله.. أهل العالم المعتاد الذي انطلقت منه شرارة المغامرة الخاصة به، لكنه عاد بشكل مغاير، عاد يحمل إكسير الحياة علاجاً للجروح، ومفتاحاً للكنز، أو الكنز نفسه، خلاصاً للأميرة، خلاصاً للأرض..عاد بشكل ساحر أسطوري آسر.
إن البطل الآن إنسان جديد بملامحه، بهويته وبروحه وبوعيه وإدراكه.. هذا البطل المحمّل بكل هذه الهبات والأعطيات سيكون الحكيم الوافد بإدراكاته الجديدة لخلاص الناس والأرض والروح..
لحظة بعث جديد لهوية هذا الإنسان الجديد المحمل بالإكسير السحري ذي التأثير المُدمِّل الشاف لكل الجروح والأوجاع والانكسارات، القادر على أن يكون لأرواحنا وقلوبنا أيقونة خلاص مرتجاة من القوى العليا الغيبية، ومن كل ما يمكن أن نتعلق به وقت الطامات الكبرى والمآزق الروحية العظيمة.
قاعدة ذهبية: انتبه جيداً لكلماتك الختامية، واحرص على أن تكون طريق العودة شائقة وملهمة، كما كانت طريق القدوم نحو عمق المغامرة. وإذا أردنا أن نضرب الأمثلة لهذا الحدث (العودة بالإكسير والتكلل بالغار) فسنسرد الكثير والكثير من الأمثلة:
بروميثيوس يفلح في مسعاه ويعود بقبس من النار ويهبه للبشر لنبدأ معه رحلة المعرفة والحقيقة والعلوم والهبات العظيمة التي سيقدمها الإنسان على سطح الكوكب الذي يشغله.
تنتصر إرادة وعزيمة عشتار لتعيد لـ تموز نبض الحياة، قبلة الحب، روح العطاء، هبة الوجود، وتبدأ دورة الطبيعة دورانها من جديد، فيهرع الفلاح ليحرث الأرض ويبذر الزرع كل عام، وهو يعرف أن إنبات تموز لابد متحقق في شكل معجزة دائمة جليلة مهيبة، وما تجددُ إنتاج الزرع والنسل إلا رمز أسطوري لانتصار عشتار ونهوض تموز في كل عام من موته مع تعاقب الفصول الأربعة.
النبي موسى عاد بعشرة ألواح كتبت عليها تعاليم الرب لتكون الدستور الخالد لقومه، وفيها خلاصة روح الإيمان والعقيدة التي يجب أن يتبعوها. كلما خطوت في درب قصتك وأنت تحكيها للأطفال، تأكد من أنك تتقن كتابة العودة، عودة بطلك من مغامرته بالإكسير الخاص به.
كسر أفق التوقع لدى المتلقي
يقول ارنست همنغواي: “إذا عرفنا كيف فشلنا نفهم كيف ننجح”.. من هنا، كان لابد من أن يتعرض البطل قبل عودته بالإكسير إلى كل المحن والمنح، على حد سواء.. مرة ينكسر ثم يتعافى، ومرة يمرض، ثم يأتي صاحب الرسالة الحكيم – الجنية الطيبة، أياً يكن!! – بالدواء الشافي، وبالحكمة الرنانة التي ستخلد في ذهنية المتلقي إلى حين من الدهر وهو يتمثل حكاية بطله الأسطورية.
ليس بالضرورة أن تكون خواتم القصص دائماً بتلك العبارات الرنانة من قبيل: “وعاشوا في سبات ونبات”، و”فاز الأمير بقلب الأميرة”، و”دامت الأفراح سبعة أيام بلياليها..”.
من الجيد التلاعب بخاتمة الحكاية والمراوغة النبيلة مع عقل المتلقي وكسر توقعه حول النهاية.. اجعله يقرأ أسطر الحكاية ويتتبع أحداثها بشكل منطقي ومتسلسل بحيث يكون التلميح بنهاية معينة واضح له، ثم اكسر التوقع واختم قصتك بنهاية مغايرة لما توقعه، أو لما هو منطقي في تسلسل الأحداث.. سوف يعيش المتلقي القارئ لحكايتك صدمة المفارقة، وهذا ما نسميه كسر أفق التوقع لدى المتلقي، وهو يثير العديد من المشاعر المتناقضة التي ستترك بلا ريب أثر حكايتك في مخيلته لأطول زمن ممكن.
كل منا يعيش قصة جلجامش في ذاته، يتأمل لحظات الخلود الآنية الضائعة على طريق البحث عن الخلود العظيم، فطوبى لمن امتهن في الحياة طرقاً ترسم على شفاه الأطفال بسمة، وفي عقولهم ومضة حب وأمل بغد مشرق.. وليكن إكسيرنا المنشود هو العودة كلّ مرة بحكاية جديدة نبيلة خلاقة لمكتبة أطفالنا تعزز لديهم أكثر وأكثر التعلق بحب هذا الوطن الجميل وبأبطاله النبلاء.