مجلة البعث الأسبوعية

“أوكوس”: إعادة اعتبار متأخرة لـ”المعلّم”.. أوروبا “عوامة على وشك الغرق”!!

“البعث الأسبوعية” ــ أحمد حسن

في إحدى دلالاته البعيدة وانعكاساته الزلزالية الجيوسياسية، أعاد تحالف “أوكوس” الاعتبار لحكمة وزير الخارجية، الراحل وليد المعلم، الذي اعتبر أوروبا، في مؤتمر صحفي مشهور منذ سنوات عدّة، خارج سياق الفعل السياسي، حتى المناسب لمصالحها، وبالتالي من الممكن تجاهلها.

الكثيرون في هذا العالم، وبينهم، على الأخص، ساسة ومفكرون!! عرب، سخروا طويلاً من هذا القول لأنهم لم يعوا حينها – ولن يعترفوا الآن – أن الراحل كان يتحدث عن المعنى، والوزن، الجيوسياسي للدول الفاعلة حقيقة، وليس الجغرافي؛ وأوروبا، بهذا المعنى، كانت قد أصبحت ومنذ زمن خارج التاريخ السياسي الفاعل للعالم، إلا بوصفها تابعاً “أميناً” للفاعل العالمي الأول – وهو واشنطن – الذي ورث، بنتيجة الحرب العالمية الثانية، دورها العالمي وورثها معه أيضاً، كجغرافية سياسية واقتصادية، رابطاً إياها به، سواء اقتصادياً عبر مشروع “مارشال” وتبعاته الالحاقية، أو عسكرياً عبر حلف “الناتو” حيث الكلمة الفعلية والأخيرة لـ “البنتاغون” تاركاً لأوروبا المقر الرسمي، الصوري، في بروكسل.

 

“عوامة على وشك الغرق”

بالتزامن مع “حكمة المعلم” هذه، وقبلها، كانت أصوات سياسية وفكرية عالمية، بعضها من القارة العجوز، تنعي الدور والمصير الأوروبي، وربما كان أكثرها دقة وتعبيراً وصف المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي، دومينيك ستروس – كان، لمنطقة اليورو أنها “غواصة على وشك الغرق” في سياق حديثه عن مشاكل الاتحاد وعجزه، كمجموعة كبرى، عن إيجاد الحلول لها، وبالتالي كان هذا العجز تحديداً دليل ضعف واضح في عالم لا يُعنى إلا بالقوة، عالم بقيادة أمريكية جامحة اعتقدت أن المناخ الدولي مناسب جداً لـ “قرن أمريكي جديد” دون مشاركة من أحد إلا من موقع التابع الكامل حتى لو ظن نفسه حليفاً وشريكاً كما الاتحاد الأوروبي.

الأمثلة والأدلة كثيرة جداً، أبرزها “السطو” الأمريكي على العراق عام 2003 رغم المعارضة العالمية والأوروبية – الرسمي منها كان بدافع مصلحي لا أخلاقي – الشرسة والفاشلة. العودة المذلّة للرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، ومعه الأوروبيين، للسير في ركاب الأمريكي في بغداد وبشأن سورية ولبنان، في انقلاب كامل على السياسة والمصالح، الفرنسية تحديداً، كانت دليلاً آخر، ولنتذكر هنا أن إصرار الرئيس الراحل حافظ الأسد على إشراك فرنسا في “تفاهم نيسان” اللبناني هو من أبقاها، ومعها أوروبا بالكامل، داخل الخارطة السياسية الفاعلة في الشرق الأوسط، وكان يقف خلف هذا الإصرار حينها محاولة سورية لإيجاد توازن دولي في لجنة التفاهم اعتماداً على الإرث الديغولي الاستقلالي الفرنسي، لكن ورثة ديغول سرعان ما باعوا “التركة” في “مولات” واشنطن السياسية.

عجز أوروبا بكاملها عن تغطية خروج أمريكا ترامب من الاتفاق النووي مع ايران دليل ثالث. دور أوروبا الذيلي في سورية وعجزها عن بلورة سياسة مصلحية خاصة بها رغم علمها الكامل بأن التأثير السلبي للعب بالتوازنات الجيوسياسية المعقدة في الشرق سينعكس سلباً عليها لا على واشنطن، دليل رابع. الانسحاب الأمريكي الكارثي من أفغانستان دون أخذ مصالح الأوروبيين بعين الاعتبار دليل خامس. الخضوع الأوروبي الكامل للاعتبارات الاقتصادية الأمريكية، سواء في الصناعات التنافسية أو في عمل المصارف وإخضاعها لقوانين واشنطن ذاتها، دليل سادس.

“أوكوس” هو الدليل الأحدث والأكبر والأخطر فالصفقة التي جرت بين واشنطن، وكانبيرا، ولندن ليست أقل من زلزال استراتيجي جعل المتابع يتمكّن، بحسب تعبير “ذي إيكونوميست” من “رؤية الصفائح التكتونية للجغرافيا السياسية وهي تتحرّك أمام عينيه”، “الصفائح” ذاتها تحركت مرة جديدة لتشكل رديفاً آخر لـ “أوكوس” ضم الهند واليابان إلى أمريكا وأستراليا، لنكون أمام تغيرات ذات طابع عميق في البنية الجيوسياسية العالمية لكن بتهميش واضح لأوروبا هذه المرة.

 

“أضرار جانبية”

وبطبيعة الحال فإن هذه “الصفائح” تحرّكت، فعلياً، نتيجة استدارة الآلة البيروقراطية المعقّدة للجهاز الامبراطوري الأمريكي الضخم بكل حمولته العدائية، وبكل أعطابه وخسائره التي مُني بها في معاركه المتعددة حول العالم، باتجاه عدو جديد –الصين- لكن، وهنا المفارقة، كان لهذا “التحرّك” أن ترك دولة مثل فرنسا -حليفة أطراف “أوكوس” كلهم- بحسب كلام أحد المحلّلين الغربيين “تعدّ، لسوء الحظ، أضراراً جانبية”!! بيد أن أوروبا كلها كانت هنا أضراراً جانبية في الواقع، خاصة، وتلك مفارقة دالّة للغاية، أن استراتيجية الاتحاد الأوروبي لمنطقة إندو- باسيفيك التي يشملها “أوكوس” كانت جاهزة في اليوم الذي أعلن عنه هذا الحلف!! وتلك إشارة سلبية للغاية ودليل غياب كامل، استخباراتي على الأقل، عن الساحة السياسية العالمية.

 

“ليبلطوا البحر”

المفارقة أن استراليا كانت قد فهمت “حكمة المعلم” بكامل تفاصيلها، فبينما هي تتابع مع باريس تفاصيل صفقة الغواصات كانت، في الآن ذاته، تبحث بديلها مع واشنطن غير آبهة بأي ردة فعل فرنسية، وبالتالي أوروبية، ولسان حالها يقول: “ليبلطوا البحر”.

وبالفعل لم يكن أمام الفرنسيين سوى “تبليط البحر”، فقد تمخض الغضب الفرنسي العارم عن استدعاء سفيري باريس في كانبيرا وواشنطن، ثم .. إعادتهم، مع إصدار بعض التصريحات “المدويّة” التي تتّهم أستراليا والولايات المتحدة بـ “الكذب والازدواجية”، وتعتبر بريطانيا “انتهازية”، وتهدّد بما لا تقدر عليه مثل “التفكير في تحديد المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف شمال الأطلسي”، ثم ..لا شيء جدّيا آخر!!.

وللحق فهذه هي، في عالم الواقع، كلّ الأسلحة التي تمتلكها باريس، ومعها أوروبا، إزاء ما حدث، فبالمحصلة هذه مكانة القارة العجوز الحاليّة والحقيقيّة في عالم اليوم، لأنها، في عالم السياسة الواقعي والجاف، لا تتقدم إلا إلى الخلف، فمن حلم الاتحاد الأوروبي كتكتل سياسي واقتصادي عالمي منافس يقدمها كقوة ثالثة بين “جباري” القرن الماضي، إلى حلم العلاقة المتوازنة مع أمريكا الذي سقط بضربة “أوكوس” القاضية، حتى أن حفلة عودة أمريكا، بحسب أحد الكتاب، “والتي جمعت بايدن مع الحلفاء الأوروبيين في مقر حلف الناتو في بروكسل تبدو وكأنها حدثت منذ وقت طويل، وليس في حزيران الحالي”.

 

على حافة الهاوية

والحال إن أوروبا التي حلمت بدافع من حربي القرن الماضي، اللتين دارت رحاهما على أرضها، باستعادة مجد الإمبراطورية الرومانية تحت اسم جديد “الاتحاد الأوروبي”، بدءاً بتأسيس المجموعة الأوروبية للفحم والصلب، ودوله الست حينها، وصولاً إلى التوسع السياسي والاقتصادي نحو دول أوروبا الشرقية، تقف اليوم على حافة الهاوية، لأسباب بنيوية وموضوعية متشابكة، بعضها، على ما يقول أحدهم، بسبب “النظام السياسي القائم على الاقتراع العام، فالزعماء الأوروبيون مضطرون إلى مراعاة مصالح شعوبهم التي تنتخبهم وتحاسبهم على ما قدموه لبلادهم وشعوبهم، وليس على ما ضحوا به لأجل المصالح الأوروبية العليا”.

بعضها الآخر يؤكد أن العامل الأبرز يتمثل في “ثقل آليات اتخاذ القرار على الصعيد الأوروبي، حيث لا تسمح تلك الآليات بالتفاعل مع القضايا المستجدة بالسرعة والفعالية التي يقتضيها واقع الحال” نتيجة رواسب التنافس التاريخي بين “الممالك” الأوروبية، فيما بعضها الثالث، والأهم، يتعلق بأزمة النظام الرأسمالي في طوره المالي المصرفي، الناجم عما يدعى بالليبرالية الاقتصادية والمالية المنفلتة من كل قيد، وتلك قصة أخرى ليس هذا مكانها.

بيد أن ما سبق، مجتمعاً، دفع بشعوب أوروبا للتمسك أكثر بحدود “وستفاليا” ضداً مع حلم الاتحاد، ونحن نسمع اليوم كيف تتساءل هذه الشعوب، وخاصة في دول مثل فرنسا وألمانيا، عن جدوى، وأحقية، صرف “أموالنا” على شعوب دول أخرى ولو كانت أوروبية؟؟!!.

 

حتى أنت يا “بروتوس”

بهذا المعنى، نجد أن أوروبا السياسية ذاتها منقسمة على نفسها: بريطانيا مثلاً هي ذيل الكلب الأوروبي الدائم لواشنطن.. الدانمارك، كما كشف تحقيق لتلفزيونها الرسمي، أجراه بالتعاون مع وسائل إعلام أوروبية كبرى، جعلت من نظام كابل اتصالاتها البحري أداة للتجسس الأمريكي على باقي “الأخوة”.

“الأخوة” هؤلاء كانوا، بحسب التحقيق، “كبار المسؤولين الأوروبيين في السويد والنروج وفرنسا وألمانيا، بينهم، على سبيل المثال، المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، وزير الخارجية الألماني السابق، فرانك فالتر شتاينماير، وحتى.. زعيم المعارضة الألماني آنذاك، بير شتاينبروك، أي كل أطياف السياسة الألمانية.

ردود الفعل الأوروبية، والألمانية، تحديداً، كانت باهتة للغاية وليست على قدر الحدث أبداً، فهي لم تتجاوز بعض العتب من نوع: “هذا غير مقبول”، و”لا مكان بيننا للشكوك”!!.

سويسرا أيضاً، فضلت دعم المجمع الصناعي العسكري الأمريكي على دعم صناعات السلاح الفرنسية، شقيقتها الأوروبية المفترضة. صفقة شراء المقاتلات الأميركية بدلاً من الفرنسية كانت طعنة أخرى في القلب الأوروبي.. الطعنات “البروتوسية” المتبادلة أكثر بكثير.

 

خلاصة القول

“أوكوس”، بمعنى ما، كان كاشفاً لحقيقة ضعف أوروبا لا منشئاً لها، اليوم، وبالتالي كلام “المعلم” كان استباقياً في كشف هذه الحقيقة علناً.

وبالطبع، لا أحد من ساسة وكتاب “مالنا غيرك يا مولانا” سيعترف بحكمة “المعلم”. السبب واضح وضوح الشمس: “الحقد هو أسوأ مستشار في السياسة”، ويبدو أنه وباء عام يتسابق مع “كورونا” في سرعة الانتشار ومداه!!.