مجلة البعث الأسبوعية

بايدن في الأمم المتحدة.. نفاق وسخرية!!

“البعث الأسبوعية” ــ تقارير

ألن يكون ممتعا إن يكون لدى مندوبين الدول في الجمعية العامة للأمم المتحدة أزرار في مقاعدهم لقياس رد فعل الجمهور مباشرة على الخطب التي يلقيها قادة العالم من المنصة؟ نجرؤ على القول إن الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي جو بايدن، قبل أيام، كان سيولد الكثير من التذمر والقهقهة لما تتضمنه من نفاق وازدواجية.

وجه بايدن نداء للدبلوماسية العالمية والدول “للعمل معا كما لم يحدث من قبل” لحل مجموعة من التحديات الملحة، بما في ذلك انعكاسات التغير المناخي والأمراض الوبائية، حتى أنه كانت لديه الجرأة المزدوجة بالتفكير بإدانة أولئك الذين يسيئون استخدام ميثاق الأمم المتحدة من خلال “الدوس [عليه] في سعيهم وراء سلطة سياسية عارية”.

خلال سبعة عقود من تأسيس الأمم المتحدة في عام 1945، لم تكن هناك دولة أخرى في حالة حرب مثل الولايات المتحدة تحت ستار ذرائع مختلفة، من محاربة الشيوعية إلى محاربة الإرهاب، إلى الدفاع عن الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان. وبغض النظر عن هذه الادعاءات الجوفاء، فإن الحقيقة هي أنه ما من دولة أخرى انتهكت ميثاق الأمم المتحدة بشكل اعتيادي، أو بوقاحة، مثل الولايات المتحدة، عبر حروب واعتداءات في كل عقد منذ العام 1945.

صعد الرئيس بايدن من المنصة، معلنا: “أقف هنا اليوم، حيث للمرة الأولى منذ 20 عاما لا تكون الولايات المتحدة في حالة حرب.. لقد قلبنا الصفحة”!!

حسنا.. الله أكبر!

وتابع بايدن: “لقد أنهينا هذه الفترة من الحرب التي لا هوادة فيها، ونحن نفتتح حقبة جديدة من الدبلوماسية التي لا هوادة فيها”.

كان يشير إلى نهاية الحرب الأمريكية في أفغانستان الشهر الماضي.. هكذا تماما، فإن الهزيمة المخزية والتراجع المخزي للجيش الأمريكي وحلفائه في الناتو من الدولة الواقعة في آسيا الوسطى يتم تقديمه على أنه يفضي، بطريقة ما، إلى حقبة جديدة من الدبلوماسية المستنيرة.

على مدى العقدين الماضيين على الأقل، كانت الولايات المتحدة في حالة هياج من الحروب الإجرامية والتدخلات العسكرية، ليس فقط في أفغانستان ولكن أيضا في يوغوسلافيا السابقة والعراق وليبيا وباكستان واليمن وسورية والصومال والعديد من الدول الأفريقية الأخرى؛ ويستمر بعض هذه العمليات العسكرية، كما هي الضربات الجوية الأمريكية على سورية والعراق والصومال. إذن، ما الذي يتحدث عنه بايدن عندما يقول: “انتهى عهد الحرب التي لا هوادة فيها”، والتي لا تزال قائمة فعلياً؟

قال بايدن إن ” القوة العسكرية يجب أن تكون أداة الملاذ الأخير لدينا”، وزعم أن واشنطن “لا تسعى إلى حرب باردة جديدة، أو إلى عالم منقسم إلى كتل جامدة”.

الرئيس الأمريكي لديه الشجاعة للتعبير عن مثل هذه الكلمات الساخرة والمخادعة بعد أيام فقط من كشفه النقاب عن تحالف عسكري جديد مع المملكة المتحدة وأستراليا – المعروف باسم “أوكوس” – والذي يهدف إلى مواجهة الصين. ومن المقرر أن تتسلح أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية للانضمام إلى السفن الحربية الأمريكية والبريطانية التي تستهدف الصين بالفعل.

حقيقة، ما من معنى لخطاب بايدن الوردي حول الدبلوماسية بسبب تصعيد إدارته للعداء تجاه الصين، إذ بقيادة بايدن، أرسلت الولايات المتحدة المزيد من السفن الحربية إلى بحر الصين الجنوبي باسم “حرية الملاحة”، وتعمل واشنطن أيضا على تأجيج التوترات حول تايوان من خلال تسليح الجزيرة وتشجيعها على إعلان الانفصال عن سلطة بكين السيادية. وبعد يومين من خطابه في الأمم المتحدة “تمجيدا للدبلوماسية”، عقد بايدن قمة لزعماء دول الرباعية في البيت الأبيض (أمريكا وأستراليا والهند واليابان)؛ وكما هو الحال مع تحالف “أوكوس”، حددت المجموعة الرباعية لنفسها مهمة “مواجهة الصين” بقيادة الولايات المتحدة.

والواقع أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة في عهد بايدن هي استمرار لسياسات أسلافه ترامب وأوباما وغيرهم. السياسة الأمريكية هي في الأساس واحدة من أدوات إحياء الحرب الباردة التي كانت قائمة مع الاتحاد السوفيتي إلى الفترة الحالية ضد الصين وروسيا.

لقد شجبت كل من الصين وروسيا مرارا وتكرارا سياسات الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لإدامة عقلية الحرب الباردة في العلاقات الدولية. ولكن هذا التقسيم الاستقطابي ضروري لتبرير العسكرة الأمريكية والسلوك الإمبريالي، إذ تحتاج الولايات المتحدة ووكلاؤها في الناتو إلى أعداء من أجل الحفاظ على نزعتهم العسكرية المفرطة والمتوحشة.

عجباً، كيف يتحدث بايدن عن انتهاء “حقبة الحرب” فيما تنفق الولايات المتحدة حوالي 778 مليار دولار سنويا على قواتها العسكرية. إن من السخف الحديث عن الدبلوماسية والتعاون في سياق هذه النزعة العسكرية العملاقة. والدليل أنه في حين انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان، ها هي تستعد لحربها القادمة ضد “منافسي القوى العظمى”: الصين وروسيا. لماذا أيضا تشكل واشنطن كتل عسكرية إقصائية مثل “أوكوس” و”الرباعية” التي تهدف علانية إلى عزل واحتواء الصين؟ هذا هو العدوان.

إذا كان بايدن صادقاً في مناشدته للدبلوماسية العالمية، لماذا لا يجلس بايدن مع قادة روسيا والصين وأعضاء آخرين في مجلس الأمن الدولي للتعاون في مجال الأمن العالمي؟

منذ توليه السلطة في البيت الأبيض، عقد بايدن قمة واحدة مع بوتين استغرقت ساعتين في جنيف، في حزيران، وكان هناك القليل من مفاوضات المتابعة، ولا يزال يتعين على بايدن عقد قمة مع نظيره الصيني شي جين بينغ. حتى الآن، تلقى الرئيسان مكالمتين هاتفيتين خلال تسعة أشهر، فهل من المفترض أن يكون ذلك ما يعنيه بايدن بـ “عصر الدبلوماسية التي لا هوادة فيها”؟

كما هو حال رؤساء الولايات المتحدة السابقين في خطاباتهم المطولة إلى الأمم المتحدة، لا تعدو هذه الخطابات كونها أكاذيب عارية ومشبعة بإشارات فضيلة منافقة، فالحروب والعدوان الأمريكي مستمران بلا هوادة، والعداء غير العقلاني الذي تبديه واشنطن وأتباعها باستمرار تجاه موسكو وبكين يقود العالم إلى حرب، وهذه المرة يحتمل أن تكون حريقا نوويا.

عندما يقوم رئيس أمريكي بتقليص النزعة العسكرية الأمريكية الهائلة، وينهي الاحتلال غير الشرعي لعدة دول، وينهي الضربات الجوية على الدول الأجنبية، وينهي العقوبات المدمرة ضد الدول الأخرى، وينهي العداء غير العقلاني وغير المبرر تجاه الدول الأخرى، ويبدأ في الدعوة إلى حوار غير مشروط ومفتوح. بين أنداد على أساس الاحترام المتبادل وميثاق الأمم المتحدة، فربما نعطي بعض المصداقية للنداءات الدبلوماسية. وحتى ذلك الحين، كل هذا مجرد مواقف مزدوجة تهدف إلى إخفاء الخداع الإجرامي المهيمن.