مجلة البعث الأسبوعية

“قانون قيصر” اللعبة خاسرة بالنسبة لواشنطن!!

 “البعث الأسبوعية” ــ تقربر العدد

في كانون الأول الماضي، أقر دونالد ترامب عقوبات جديدة واسعة ضد الحكومة السورية. ورغم أن سورية تخضع لعقوبات أمريكية منذ عام 2011، إلا ن التدابير الجديدة التي دخلت حيز التنفيذ في منتصف حزيران تتسم بالجذرية، وهي تنطبق على أي شخص، سوري أو غير سوري، يساعد الحكومة السورية، أو أي كيان يتبع لها.

والحقيقة، وبالمقارنة مع العديد من الإجراءات التي اتخذت في عهد ترامب في الشرق الأوسط، فإن لهذه العقوبات ميزة الاتساق، بيد أنها لا تعزز أياً من المصالح الأساسية للولايات المتحدة، كما أنها تزيد من بؤس الشعب السوري وتخنق الاقتصاد وتقوض جهود إعادة الإعمار وقدرة السوريين على مواجهة الأزمات الإنسانية والصحية المتفاقمة.

ووفقاً للممثل الأميركي الخاص في سورية، جيمس جيفري، فإن أهداف سياسة الأرض المحروقة هذه هي تحويل سورية إلى “مستنقع” لروسيا، وكسب ما يكفي من النفوذ لـ “إعادة بناء نظام الحكم”، تماماً كهدف العقوبات التي فرضتها واشنطن على اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. ووفقاً لجيفري، فإن الولايات المتحدة تسعى إلى إحداث “تغيير جذري” في سلوك “النظام”.

من الناحية النظرية، يتهيأ لواشنطن أن “الإفلاس” المفترض للحكومة السورية قد يجبرها على الانصياع للرغبات الأمريكية. ولمضاعفة الضغط، وافقت الولايات المتحدة على توجيه “ضربات” إسرائيلية إلى الأراضي السورية، وعلى مصادرة تركيا لموارد الطاقة السورية. كما أغلقت الطريق الرئيسي المؤدي إلى بغداد لخنق التجارة السورية.

 

السياسة الأمريكية

تفترض حملة العقوبات الجديدة مسبقاً أن المستنقع الذي خلقته الولايات المتحدة سوف يستنزف روسيا بطريقة أو بأخرى. وبالنسبة لمؤيدي هذه السياسة، وخاصة أولئك الذين نشأوا في فيتنام، فإن “المستنقع” مصطلح لا معنى له. والواقع أنه يذكّر بحرب أزهقت حياة 58 ألف أمريكي، ودمرت مصداقية الولايات المتحدة، وأضعفت النسيج الاجتماعي لذلك البلد. ومع ذلك، فإن مجرد تكرار هذا المصطلح “التعويذة” لن يقود روسيا إلى تجربة مثل هذا المستنقع [في بلاد الشام]. فضلاً عن ذلك، ليس لدى واشنطن ما تكسبه من خلق مستنقع لموسكو. ومثل هذا النهج لن يحسن من موقعها الاستراتيجي في المنطقة، ولن ينقذ أرواح السوريين، ولن يقلل من “التهديد الذي تشكله روسيا على الديمقراطية الأمريكية”.

ببساطة، في العالم الحقيقي، “المستنقع” هو مصطلح مضلل للدول الفاشلة، فهو يعرض شعوبها للجوع والمرض والفقر وجنرالات الحرب. ولكن إدارة ترامب تتحايل على هذا الواقع الكئيب من خلال الإصرار على أن العقوبات الاقتصادية تعمل. ومع ذلك، لا دليل على أن هذه التدابير تحقق أهدافها. بل وحتى أكثر العقوبات تطوراً يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية. إن تدمير الطبقة الوسطى في العراق في التسعينيات هو مثال في محله: قتلت العقوبات الأمريكية مئات الآلاف من العراقيين وكانت آثارها تمييزية، وعاقبت النساء والأطفال بشكل غير متناسب. إن فكرة أن العقوبات تعمل هي وهم لا رحمة فيه. والحقيقة أن أولئك الذين لديهم أسلحة يأكلون أولاً، وما عدا ذلك فاللعبة خاسرة بالنسبة لواشنطن.

 

منطق الجزاءات

لقد صممت إدارة ترامب العقوبات التي فرضتها على سورية لجعل إعادة الإعمار مستحيلة. وتستهدف هذه التدابير قطاعات البناء والكهرباء والنفط، وهي قطاعات ضرورية لإعادة سورية للوقوف على قدميها. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تزعم أنها “تحمي” حقول النفط، شمال شرق البلاد، إلا أنها لم تسمح للحكومة السورية بالوصول إليها لإصلاحها. وتحظر العقوبات الأمريكية أعمال الإصلاح لأي شركة من أي جنسية. لكن تسرب النفط لا يزال يتدفق إلى نهري الخابور والفرات؛ ولا تعاقب العقوبات الأميركية الأشخاص الذين يحصلون على الكهرباء لمدة ساعة أو ساعتين في اليوم فحسب، بل تُسمّم بيئتهم أيضاً.

وتمنع العقوبات حتى المنظمات الإنسانية غير الأمريكية من تقديم مساعدات إعادة الإعمار، فالإعفاءات الإنسانية غامضة بشكل متعمد، وكذلك المطالب التي يتعين على الحكومة السورية تلبيتها من أجل الحصول على تخفيف العقوبات. ويُقصد من هذا الغموض ردع مقدمي المساعدات والمستثمرين الذين يمكنهم دعم إعادة إعمار سورية.

 

عليه أن يتخلى عن “قانون قيصر”..

في حزيران الماضي، أشارت الصحافة الدولية إلى أن تنفيذ إدارة ترامب لقانون قيصر سيكون له تأثيره المدمر على لبنان. ولكن في أعقاب مأساة بيروت، قال وزير الخارجية مايك بومبيو إن واشنطن مستعدة لمساعدة بلد الأرز. ومع ذلك، ونظراً لأن الولايات المتحدة تعتبر حزب الله منظمة إرهابية، فمن غير المرجح أن تتخلى عن حربها الاقتصادية على بلاد الشام. وللأسف، فإن هذه السياسات تؤثر بشكل رئيسي على المدنيين. وبالتالي، وفي السياق الضار للسوريين واللبنانيين، هناك حاجة إلى إلغاء هذه العقوبات التي تشجع على البؤس والمعاناة وعدم الاستقرار دون تحقيق أهداف سياسية كبرى.

بعد وقت قصير من المأساة في بيروت، تجرأ بومبيو على تأكيد “التزام الولايات المتحدة بمساعدة الشعب اللبناني على مواجهة عواقب هذا الحدث المروع”. وهذه التأكيدات جريئة على أقل تقدير، لأن تطبيق ما يسمى “قانون قيصر” – كما توقع العديد من الخبراء – قد تكون له عواقب وخيمة على لبنان. إن استهداف سورية بهذا “القانون” يمكن أن يضرب فعلاً المشرق العربي بقوة، علماً أن جميع القطاعات الاقتصادية في سورية، الخاضعة لسيطرة الحكومة، مستهدفة. كما أن الترابط غير الرسمي بين لبنان وسورية يجعل هاتين الدولتين عرضة لسياسات العقوبات، فضلاً عن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للحرب التي عصفت بسورية منذ عام 2011.

في الواقع، كان لـ “قانون قيصر” تأثير على الاقتصاد اللبناني حتى قبل تنفيذه. وقد ربط بعض المحللين التسارع المفاجئ لانخفاض قيمة العملة اللبنانية في السوق السوداء، في الأيام الأخيرة، بالمخاوف من التطبيق الوشيك لـ “قانون قيصر”، في حين كان السوريون، القلقون من ضغوط وشيكة على العملات الأجنبية، يشترون الدولار في لبنان.

ومع ذلك، في أيار الماضي، كان هناك نقص متزايد في الدولارات في النظامين الماليين اللبناني والسوري. وترجع هذه العملية إلى حقيقة أن “الطلب على الدولار الأمريكي في سورية ولبنان قد زاد بشكل حاد مع سعي الناس إلى جمع الدولارات الأمريكية مع دخول الموعد النهائي لعقوبات قيصر حيز التنفيذ”. وقد شهد الاندفاع نحو الدولار الأمريكي هبوط قيمة العملتين السورية واللبنانية بشكل حاد في الأسواق الموازية. وبالتالي يمكن تصور الأسوأ بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من هذه الجولة الجديدة من العقوبات، بما في ذلك المجاعة، أو زيادة انقطاع التيار الكهربائي، أو زيادة عدم الاستقرار السياسي.

إن الانفجار الأخير في ميناء بيروت سيؤثر تأثيراً عميقاً على الشعب اللبناني، مع العلم أن صوامع الحبوب، بطاقة 120 ألف طن، قد دُمرّت، وأن تدمير هذه المنطقة من المرفأ يثير بالفعل مخاوف من نقص كبير – وكل ذلك في سياق الكساد الاقتصادي. كما سيؤثر ذلك على ملايين السوريين، حيث أصبحت الموانئ اللبنانية “ضرورية” للالتفاف على العقوبات الأمريكية والأوروبية، وتوريد البضائع إلى سورية.

ومع ذلك، ومن أجل الحصول على موافقة واشنطن على قرض بقيمة 10 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، من المرجح أن تضغط الولايات المتحدة على الحكومة اللبنانية لإغلاق حدودها مع سورية، الأمر الذي سيكون كارثياً على شعبي البلدين.

ومن المفارقات أن مسؤولاً في وزارة الخارجية الأمريكية جادل مؤخراً بأن الولايات المتحدة لا تزال “شريكاً ثابتاً للشعب اللبناني، وقد ساهمت بمبلغ 750 مليون دولار في قطاع التنمية الاقتصادية والمساعدات الإنسانية والمساعدات الأمنية [من أجل بلاد الأرز] في عام 2019”. وبعبارة أخرى، وكما يقول كبار المسؤولين في إدارة ترامب، من المفترض أن تستهدف العقوبات المفروضة على لبنان حزب الله فقط، تماماً كما أن “قانون قيصر” لن يؤثر إلا على الحكومة السورية. ومع ذلك، وكما أشار أحد الخبراء اللبنانيين، عام 2017، فإن تأثير العقوبات الأمريكية على لبنان كان له بالفعل تأثير كبير على النظام المالي المحلي. وفيما يتعلق بسورية، والدول المحيطة بها، كتب الباحث كمال علم مؤخراً أن “قانون قيصر هو أكبر برنامج عقوبات في التاريخ، وسيكون له تأثير اقتصادي مدمر على سورية وجيرانها، وخاصة لبنان”.

وللأسف، يبدو أن الاستراتيجيين في واشنطن غير قادرين على فهم أن الرئيس الأسد سيقاوم الضغوط، وعلى الرغم من أن “حزب الله” يواجه مشاكل في السياق الراهن، إلا أنه لا يزال مؤثراً جداً على الساحة السياسية الداخلية اللبنانية. ويعتقد منتقدوه أن حالة الأزمة الاقتصادية الكبرى في بلد الأرز قد عززت الحزب. وللأسف، من غير المرجح أن تتخلى إدارة ترامب عن سياسات العقوبات هذه، متجاهلة تماماً تأثير هذه التدابير على شعوب المشرق العربي. وكما لاحظ فيليب غراسيه، فإن السمتين النفسيتين الرئيسيتين لمهندسي السياسة الخارجية الأمريكية هما التلقين و”عدم القابلية للرد، أو على التوالي استحالة الشعور بالذنب والاعتراف بالهزيمة. ومن خلال فرض عقوبات أصابت شعوب الدول المستهدفة بشدة، ومن خلال رفض الاعتراف بفشل حربها السرية الواسعة في الإطاحة بـ “االنظام” في دمشق، فإن الإدارة الأمريكية تثبت ذلك مرة أخرى.

لقد شرع باراك أوباما والقادة الأوروبيون في حملة صليبية ضد سورية، في عام 2011. افترضوا أن حكومة بديلة “فاضلة” تنتظر وراء الكواليس. وقد أثبتت شخصيات “المعارضة” التي تلقت تعليمها في الغرب، والتي تدعمها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أنها لا تملك أي تأثير على الأرض, وفشلت المحاولات الأمريكية لتوحيد ما يسمى “معارضين”. وفي عام 2012، أحصت وكالة الاستخبارات المركزية أكثر من 1500 من ميليشيات المعارضة السورية.

 

لماذا لا تعمل العقوبات؟

وعلى الرغم من أن جيمس جيفري قال إن الولايات المتحدة لم تعد تريد تغيير النظام في سورية، لايزال العديد من مؤيدي العقوبات يأملون في التوصل إلى نتيجة. ويقولون إن المعاناة الحالية للسوريين العاديين سوف تؤتي ثمارها.

وعلى الرغم من كل الصعاب، انتصر الرئيس السوري وأنصاره: لم ينحن السوريون عندما فجر عندما المتمردون مقر الأمن القومي في بداية الحرب، كما لم تفل إرادتهم عندما خسروا تدمر، أو إدلب، أو نصف حلب، أو حقول النفط، أو الشمال الشرقي أو الجنوب الشرقي. لم يشعروا بالجزع خلال حملة القصف لدونالد ترامب. وقاوموا جهوداً قوية من جانب الولايات المتحدة [وحلفائها] لتجهيز وتدريب المعارضة الإرهابية. وإذا لم تكن تسع سنوات من العنف الوحشي، الذي أودى بحياة نحو عشرات الآلاف، قد هزمت الرئيس الأسد وشعيه، فمن غير المرجح أن يهزمهما الحصار الاقتصادي.

في الماضي، قادت الولايات المتحدة نظاماً ليبراليا دولياً قائماً على الاعتقاد بأن التجارة الحرة والطبقة الوسطى الحيوية من شأنها ضمان الحكم الديمقراطي ورفاه المجتمع. واليوم، تحاول إدارة ترامب إقناع العالم بعكس ذلك – بأن الفقر وتقييد التجارة سيجلبان التقدم والحرية. وكلما أسرعت الولايات المتحدة في إعادة النظر في سياستها العقابية تجاه سورية، كلما أسرعت في تقديم مساهمة إيجابية في التنمية الإقليمية.