دراساتصحيفة البعث

ألمانيتان تقودان أوروبا

هيفاء علي

كشفت الأزمة الصحية العالمية المتمثلة بتفشي وباء كورونا مدى هشاشة وقصور الاتحاد الأوروبي في مواجهة هذا الوباء، حيث تصرفت كل دولة على حدة وبأنانية مفرطة دون التنسيق مع بعضها البعض ودون مساعدة بعضها لبعض. وشاءت الأقدار أن تتسلم ألمانيا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوربي في ظل ظروف عالمية عصيبة ومعقدة تسودها التحديات الصحية، والاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية، والسياسية.

لقد تركت أزمة “كوفيد 19” العالمية بصمتها في أذهان الناس، سواء في شراستها أو في أوجه قصور وعجز حكومات الاتحاد الأوروبي عن مواجهتها وغياب التضامن بين الدول الأعضاء فيه. وخلافاً للتأكيدات على وحدة البلدان الأوروبية، فقد أظهرت الأزمة الصحية الراهنة أن جميع الدول تعمل لنفسها، بما في ذلك شراء المواد الطبية والمنتجات. هذا السلوك يذّكر بما قاله تشرشل ذات يوم في زمن الحرب العالمية: “ليس لدينا أصدقاء، ليس لدينا سوى حلفاء أو أعداء، و من يفوز بالرهان هو الأقوى والأغنى أو الأكثر عدوانية”.

وبالفعل، أثبتت أوروبا أنها غير قادرة على الاستجابة للأزمة بعمل مشترك، وحلف الناتو ليس أفضل حالاً. كل دولة بذلت ما بوسعها وفقاً لوسائلها بين أولئك الذين اعتبروا أنه يجب ترك الطبيعة تفعل ما يحلو لها أياً كان الثمن، وبين أولئك الذين سعوا إلى تجنب الكارثة من خلال تدابير تتراوح من تحديد المريض إلى الحجر العام. أما على مستوى الشركات، فقد جعلت الأزمة الكثيرين يكتشفون ويؤكدون حدود العولمة، وأهمية الوطنية الاقتصادية، وعواقب مبدأ الحيطة والحذر. لقد أظهر الاقتصاد الليبرالي حدوده، وأظهرت اضطرابات التوريد في المراحل الأولى أو النهائية أن النقل لأسباب مالية كان دراماتيكياً في الأزمة وأن هناك حاجة إلى مصادر قريبة للاستجابة لما هو غير متوقع، وهو ما حصل مع المواطنين الأوروبيين الذين لجؤوا  إلى الدولة، وليس إلى الاتحاد الأوروبي، للاستجابة لمطالبهم الملحة المتعلقة بالأمن الصحي.

اليوم، بات مستقبل الاتحاد الأوروبي في أيدي امرأتين ألمانيتين:  أورسولا فون دير لين، رئيسة المفوضية الأوروبية التي قدمت في 27 ايار2020 “الإطار المالي المتعدد للسنوات القادمة لميزانية الاتحاد الأوروبي (2021-2027) الذي سيكون مختلفاً عن ذلك الذي طرحته قبل أزمة الفيروس التاجي والذي فشل في إقناع رؤساء الدول والحكومات. فيما تولت أنجيلا ميركل الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي اعتباراً من الأول من شهر حزيران الفائت، وأمامها مسؤوليات كثيرة أهمها المفاوضات مع تشارلز ميشيل، رئيس المجلس الأوروبي، لإقناع كل نظرائها الأوربيين لتمهيد الطريق لإخراج الاتحاد الأوروبي بالكامل من الأزمة وتنظيم انتعاش اقتصادي مستدام يأخذ في الاعتبار التحديات الصحية والبيئية والتكنولوجية والاجتماعية التي تواجهها جميع الدول الأعضاء في الاتحاد.

أزمة الفيروس التاجي الراهنة سلطت الضوء على نقاط الضعف في البناء الأوروبي. لذلك يندرج الاقتراح الفرنسي الألماني في 18 أيار 2020 في إطار التحضير لإنعاش يضمن تحديثاً كبيراً للاقتصاديات الأوربية، وليس فقط تعويض الخسائر التي تكبدتها جراء الجائحة والعودة إلى الأعمال قبل الأزمة، ويندرج أكثر في إطار “مؤتمر مستقبل أوروبا”، الذي أطلق حول المشروع الأوروبي وإصلاحاته وأولوياته، و”صندوق التحفيز” المقترح ليس سوى جزء منه، وإن كان أساسياً.

وفور توليها رئاسة الاتحاد الأوروبي، أجرت ميركل، مقابلة خاصة لصحف شبكة أوروبا، وقدمت بانوراما عن حالة أوروبا والعالم ابتداءً من رفض الشعب الفرنسي للمعاهدة الدستورية في عام 2007 ، والأزمة المالية لعام 2008، والاضطراب في اليورو، وأزمة اللاجئين في عام 2015. واليوم، تقدم أزمة كورونا تحدياً غير مسبوق، لهذا السبب تدعو ميركل الدول الأعضاء إلى تجنب طرح الكثير من الأسئلة الوجودية، وتشجعهم على العمل للحفاظ على السوق الأوروبية الموحدة.

إذا كانت أوروبا تريد الاستماع إليها، فيجب أن تكون ميركل قدوة حسنة، لكن حتى الآن ليس لدى المستشارة سوى القليل من الوهم بأن المفاوضات القادمة، ولا سيما تلك المتعلقة باعتماد خطة “الانعاش الفرنسية- الألمانية”، ستكون صعبة. ناهيك عن اختتام خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإطلاق مؤتمر مستقبل أوروبا، الذي من المقرر أن ينتهي في النصف الأول من عام 2022  في ظل الرئاسة الفرنسية.
يقول دبلوماسيون إن لا شيء مكتسباً حقاً قبل اكتساب كل شيء. وفي كلمة “الكل” تعني اتفاقية تشمل السبعة وعشرين،  وفيما يتعلق بخطة الإنعاش بعد الوباء،  فإن أقل ما يمكن قوله هو أنه لا يزال هناك الكثير من العمل الدبلوماسي لإقناع المشككين للقيام به لتحقيق هذا الهدف. لكن أنجيلا ميركل  كانت أكثر تصميماً وأكثر هدوءاً من أي وقت مضى، وأقل ما يمكن قوله هو أنها تستمد قوتها ومصداقيتها على الساحة الدولية من حقيقة أن سياساتها ودبلوماسيتها يتم تخيلها وتنفيذها على المدى الطويل وليس في وسائل الإعلام القصيرة والعاطفية. إنها تعرف كيف تحافظ، في جميع الظروف، على صفاتها من الوضوح والتوازن والحس السليم.