ثقافةصحيفة البعث

سعيد الأفغاني عالم العربية وحارسها النابه

“في طبعي هيام بالحرية والصراحة، وكثيراً ما أتنكب الطريق الأسلم في سبيل الجهر بما أرى أنه الحق في العقائد والأشخاص، متحمّلاً بصبر وطمأنينة ما أجرّ على نفسي من عناء وعداء، وهذا بلاء حتم لا مفر منه لمن خلق صريحاً ولو حاول غير ذلك ما استطاع”.. سعيد الأفغاني واحد من أفذاذ العربية في القرن العشرين، وقف حياته عليها تعلّماً وتعليماً، وتأليفاً وتحقيقاً لنصوصها العتاق الأول، وتخرّجت به أجيال مازالت تذكر فضله وعلمه وغيرته على هذا اللسان العربي المبين.

وفي الكتيب الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب – الكتاب الشهري لليافعين من سلسلة “أعلام ومبدعون” – والذي جاء بعنوان “سعيد الأفغاني”، وكتبه د. محمد قاسم، تضمن إطلالة على محطات حياة هذا الرجل العالم الذي سحرته العربية وغلبته على أمره، وبعضاً مما قيل فيه وروي عنه ونماذج مما خطّه.

 حياته

هاجر محمد جان الأفغاني من كشمير إلى دمشق، وكان إذ ذاك في العشرين من عمره، اشتغل الرجل في حي البزورية، وقطن في حي العمارة الجوانية، أحد أحياء دمشق القديمة، ثم تزوج من سيدة من بيت الأبيض، وأنجبت سعيداً ثم أختاً، وماتت الأم بُعيد ولادتها.

قام محمد جان بتنشئة ولديه أحسن ما يكون القيام من غرس القيم النبيلة والمبادئ السامية في نفوسهما، وبعثهما على طلب العلم الذي يكون به قوام الشخصية واستواؤها.

وكثيراً ما كان الطفل الناشئ سعيد يذهب إلى الجامع الأموي الذي كان منارة علمية هادية، إما أن يصطحبه أبوه، أو أن يصطحبه فضوله المعرفي الذي لا يعرف الفتور سبيلاً إليه، هيأ له ذلك وأعانه قرب مسكنه من هذا الصرح المعروف، ومكان عمل والده في حي البزورية الهاجع جنوبي الجامع.

في أحياء البزورية والقيمرية والنوفرة والعمارة التي تتدانى صانعة بيئة شامية عتيقة ملأى بالكتاتيب، عامرة بالعالم، تفتحت عيون الفتى سعيد، وراقب ما كان يتوالى سحابة النهار من دروس في الجامع الأموي.

في هذه الدروس التقى سعيد أستاذه أحمد النويلاتي، وهو عالم مصلح، وكانت له نقدات في تقويم المجتمع، ومحاربة الفساد، فتأثر سعيد بهذا النهج الإصلاحي الذي يتطلع إلى بناء مجتمع معافى من الآفات والأسقام والعلل.

بدأ سعيد رحلته في التعليم الرسمي منذ طفولته، ودخل مدرسة التطبيقات التي أتم فيها دراسته الابتدائية، ثم تابع دراسته الإعدادية والثانوية في مدرسة التجهيز ودار المعلمين، تخرّج سعيد والتحق بمدرسة الآداب العليا في الجامعة السورية، ولما أنشئت كلية الآداب عيّن فيها أستاذاً مساعداً.

النشاط العلمي

اشتغل سعيد الأفغاني في تدريس اللغة العربية وعلومها في الجامعة السورية، وقد أوفدته وزارة المعارف إلى مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب للاطلاع على طرائق تدريس اللغة العربية في جامعاتها، ثم أوفده وزير المعارف إلى اسبانيا وفرنسا وانكلترا لزيارة معاهد الاستشراق فيها خلال ستة أشهر.

آثاره العلمية

ترك العالم سعيد الأفغاني للمكتبة العربية تراثاً جماً ذا ألوان مختلفة من التأليف والتحقيق والبحوث، فقد ألّف: حاضر اللغة العربية في بلاد الشام، ونظرات في اللغة عند ابن حزم، ومذكرات في قواعد اللغة العربية، وفي أصول النحو، وهو أجود ما كتب في بابه في العصر الحديث: أسواق العرب، الإسلام والمرأة، أما في حقل تحقيق النصوص فكان له: الإجابة لما استدركته عائشة على الصحابة للزركشي، والمفاضلة بين الصحابة لابن حزم الأندلسي، وتاريخ دارا لعبد الجبار الخولاني، وغيرها، وله الكثير من البحوث والمقالات.

قال الباحث اللغوي يوسف الصيداوي عن سعيد الأفغاني: ما امتاز عَلَم من الأعلام ثم لاقى وجه ربه إلا نهض عارفو فضله، فأبّنوه في حفل أو كتبوا عنه في مجلة أو صحيفة، يريدون بذلك نشر فضائله وتوفيته بعض حقه على أمته، أن عمل فعرف له فضله، فإن كان موسيقياً عُزف شيء من ألحانه، أو تشكيلياً عُرض شيء من لوحاته، أو شاعراً ألقي شيء من شعره، أو ألقى بعض الشعراء قصائد تمجّده.

عرف الأفغاني عندما كنت ناظراً ومحاسباً في المدرسة الحسينية، حيث خصصت له إدارة المدرسة غرفة خاصة: “كان أساتذة اللغة العربية يريحون عندي بين الحصتين، تمر الأيام وأدخل الجامعة، وما في ذهني شيء أخطر من أن أرى ذلك الأستاذ وأسمعه”، كان الأفغاني يشرح خطة الدراسة خلال السنة ويبيّن منهاجها، كانت دروسه تمضي جداً لا هزل معه، وإحكاماً لا يمازجه تضييع.

جُمان بركات