الصدام التركي مع أوروبا يقترب
إبراهيم أحمد
على الرغم من التصعيد التركي، ومحاولة إضفاء المزيد من أجواء التوتر على شرقي البحر المتوسط، والتلويح بقرقعة السلاح، سعياً من رئيس النظام التركي أردوغان، للظهور بمظهر من يتحكم في عملية التنقيب عن الغاز والنفط في تلك المنطقة، فإن ذلك لم يحجب حقيقة إحباط أنقرة ومخاوفها من الاضطرار إلى التراجع أمام مجمل تحركات دول الإقليم والاصطفافات الجارية لمنعها من تحقيق أهدافها العدوانية والتوسعية.
ففي أواخر تشرين الثاني من العام الماضي، ظن أردوغان أن توقيعه اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع “حكومة السراج” في طرابلس يتيح له إمكانية قطع البحر الأبيض المتوسط إلى نصفين من الشمال الجنوب والوصول إلى السواحل الليبية بحرية تامة، ليس فقط لاقتسام كعكة النفط والغاز، الذي سيتم استخراجه لترميم اقتصاد بلاده المنهار، وإنما منع أي عمليات أخرى للتنقيب، إلا عبر الشراكة مع أنقرة. لكن المفاجأة جاءت في أوائل آب الحالي، عندما وقّعت مصر واليونان اتفاقاً لترسيم الحدود البحرية، ليجهض الاتفاق التركي مع حكومة السراج، ويُفرّغه تماماً من مضمونه، ويصبح عديم الفائدة، بعدما كسرت الاتفاقية المصرية اليونانية الاحتكار التركي، وقطعت الاتصال البحري لأنقرة مع ليبيا. وهو ما يسجل نجاحاً كبيراً لمصر واليونان، ويضيف إنجازاً مهماً للقاهرة، على وجه الخصوص، التي كانت قد أوقفت التقدم التركي على جبهة سرت ومحيطها في الداخل الليبي.
ومن هنا جاء رد الفعل التركي بالتصعيد وإرسال سفن التنقيب إلى قبالة السواحل القبرصية والجزر اليونانية المتنازع عليها والتحرش بالقطع البحرية اليونانية، وهو الأمر الذي أثار حفيظة الاتحاد الأوروبي، وفرنسا بالذات، التي سارعت إلى تعزيز حضورها في البحر المتوسط وإرسال فرقاطة وطائرات حربية لفرض ما سمته باريس “احترام القانون الدولي”، وهو تحرك واضح للاصطفاف بقوة إلى جانب اليونان العضو في الاتحاد الأوروبي. وبينما كانت تأمل أنقرة الحصول على دعم أمريكي أو على الأقل “الحياد” إزاء تحركاتها في المتوسط، أعلنت واشنطن دعمها لحق قبرص اليونانية في التنقيب ضمن مياهها الإقليمية، وهو ما كبّل أيدي أنقرة ودفعها للتراجع عملياً عن خططها رغم تصريحاتها المعلنة عكس ذلك، وادعاء أردوغان أنه لن يتراجع أمام ما سماه “لغة التهديد والعقوبات”.
تكمن مشكلة النظام التركي أنه استعْدَى معظم دول المنطقة، وبخلاف حالة العداء التاريخي بينه وبين اليونان، واعتداءاته العسكرية على سورية وليبيا والعراق وغيرها، ومحاولاته المستمرة للهيمنة على المنطقة ومقدراتها، والتي أثارت غضباً واسعاً لدى الشعوب والدول، واضطرت للعمل على قيام تحالفات واصطفافات جديدة، بعضها قد يتمخض عن تحالفات عسكرية، لوقف أطماع أنقرة وأهدافها التوسعية، ومجمل هذه التطورات دفع أردوغان إلى الإحباط واليأس.
ويمكن القول: إن صداماً جديداً ربما يكون أحد الخيارات المطروحة على الساحة بين أوروبا وتركيا، على خلفية تصريحات أنقرة أعلنت فيها توسيع البحث عن حصتها من غاز البحر المتوسط. التصعيد الأخير بين الأتراك وأوروبا، كشفته التصريحات الأوروبية ضد أنقرة، عقب موجة من التهديدات ضد تركيا، أعقبت اجتماع الاتحاد الأوربي الأخير. وفي أحدث حلقات الصراع من أجل غاز المتوسط، أعلنت تركيا مؤخراً أنها ستوسّع نطاق عملياتها لاستكشاف حقول الغاز شرقي البحر الأبيض المتوسط بالتزامن مع إجراء أنقرة تدريبات عسكرية، في حين قال الاتحاد الأوروبي إن ذلك يزيد التوتر في المنطقة. وذكرت البحرية التركية في مذكرة نشرتها مؤخراً، أن سفينة “يافوز” للتنقيب عن الغاز المنتشرة قبالة سواحل قبرص منذ أشهر ستقوم بأنشطتها من 18 آب إلى 15 أيلول المقبل جنوب غرب الجزيرة، مضيفة “ننصح بشدة بعدم التوجه إلى منطقة التنقيب”. كما أعلنت وزارة الحرب الأردوغانية في تغريدة عبر حسابها في تويتر، أن الفرقاطة “كمال ريس” التي شاركت في عملية درع المتوسط، والسفينة الحربية “باندرما” المشاركة في قوات الأمم المتحدة في لبنان، تنفذان حالياً مهمة شرقي المتوسط. ونشرت الوزارة صوراً لمناورات بحرية أظهرت سفناً حربية تواكب سفينة المسح الزلزالي “برباروس خير الدين باشا .
ويأتي إعلان أنقرة توسيع أنشطتها في أجواء من التوتر المتنامي شرقي المتوسط، حيث أثار اكتشاف حقول كبيرة من الغاز في السنوات الماضية اهتمام نظام أردوغان، في حين لاقت خطواتها استهجاناً من اليونان وقبرص والاتحاد الأوروبي.من جهتهم، وصف وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي التحركات التركية بأنها عدائية وخطيرة، بعد اجتماع عقد بطلب من أثينا، التي دعت إلى اتخاذ تدابير ملموسة لردع أنقرة. وأقر الاجتماع عقد لقاء آخر في نهاية الشهر الجاري لمتابعة الوضع وتطوراته. وقال الاتحاد في بيان له، إن إعلان تركيا استمرار عمليات التنقيب في المنطقة البحرية التي تم تحديدها من قبل مصر وقبرص، يزيد التوتر وحالة عدم الاستقرار في شرق المتوسط. وأضاف البيان الذي أصدره المفوّض الأعلى للسياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، أن ذلك يؤثر على استئناف الحوار والمفاوضات، وهو الحل الوحيد حسب ما اتفق عليه وزراء الخارجية في اجتماعهم مؤخراً.
وتقول مصادر يونانية: إن استفزازات تركيا في المتوسط عقّدت علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، وعلقت إلى أجل غير مسمى مساعيها بالانضمام للمجموعة الأوروبية. إلى ذلك يرى مراقبون أن احتمالية المواجهة الأوروبية التركية “مستبعدة”، لكن في حال المواجهة بين أنقرة وأثينا، ستقف أوروبا في مواجهة الأتراك.
التصعيد التركي اليوناني ليس حديثاً وإنما “تصعيد قديم” له أسبابه ومبرراته، لكن لا يمكن أن يصل إلى الصدام المباشر، فكلا الدولتين أعضاء في حلف شمال الأطلسي ولا يمكن أن يسمح الحلف لأي تصعيد بين أعضائه. لكن إن حدثت مواجهة عسكرية، فستقف الدول الأوربية لصالح اليونان، لهذا لن يتجرأ نظام أردوغان على أي مواجهة عسكرية مع اليونان مهما كانت حدة الخلاف، وبالتالي فإن أي اتفاقية في منطقة البحر المتوسط لن يكتب لها النجاح إلا بتوافق دولي.