مجلة البعث الأسبوعية

الحكومات السابقة أخفقت بتحويلها إلى فرصة الرد على العقوبات الاقتصادية بتفعيل الإمكانات الذاتية والقطاع العام

“البعث الأسبوعية” ــ علي عبود

لعل السؤال الذي يؤرق ملايين السوريين منذ أشهر: كيف سنواجه العقوبات الاقتصادية الأمريكية؟

السيد الرئيس بشار الأسد، في كلمته الأخيرة أمام مجلس الشعب الجديد، أجاب على السؤال بوضوح وبشكل مباشر: الرد العملي على الحصار يكون بزيادة الإنتاج في كل القطاعات.

وإذا أجرينا عماية جرد إنجازات الحكومات السابقة، منذ عام 2003، لاكتشفنا بسهولة أنها أخفقت بدعم القطاعات التي بإمكانها زيادة الإنتاج، وركزت على القطاعات الخدمية، واستيراد معظم احتياجاتنا اليومية. وبما أن الرئيس الأسد أعاد الأمور إلى مسارها الصحيح، وأعلن عن رؤية استراتيجية على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ليس لمواجهة العقوبات فقط وإنما أيضا لسورية المستقبل، فإن المهمة الوحيدة للحكومات التي ستتشكل على مدى العقدين القادمين هي أن تضع خططاً خمسية لبلورة هذه الرؤية بمشاريع ترصد لها الاعتمادات في الموازنة العامة للدولة. ومن الطبيعي ألا يتحقق هذه الهدف إلا بإصلاح القطاع العام وإعادة الروح للقطاع الإنشائي الذي كان ذراع الدولة لبناء سورية الحديثة – كما عرفناها منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي وحتى عام 2011 – وتحفيز الاستثمارات الخاصة. والسؤال: هل ستفعلها الحكومات القادمة، أم ستسير على خطى الحكومات السابقة، خلال سنوات 2003 – 2020؟

 

لا مواجهة فعالة بلا بدعم لا محدود للزراعة

سمعنا الكثير عن دعم الحكومات السابقة للقطاع الزراعي، ولكن النتيجة الفعلية كانت، ولاتزال، مخيبة للأمال، فعن أي دعم للزراعة نتحدث إذا كانت الحصيلة الآن أسعار سلع غذائية تفوق بعدة أضعاف القدرة الشرائية لملايين الأسر السورية؟ والسؤال: هل الدعم الحكومي للزراعة كان شكلياً؟

لا يهم ما تعلنه الحكومة عن مليارات الدعم التي ترصدها سنوياً، فالمهم ماذا يستفيد المواطن من المنتجات الزراعية؛ وعندما لا تقوى ملايين الأسر السورية على شراء اللحوم الحمراء والبيضاء والخضر والفواكه إلا بكميات أقل من الحد الأدنى لاحتياجاتها، فهذا يعني أن الحكومات المتعاقبة أخفقت بزيادة الإنتاج وتوفيره بأسعار تناسب الدخل!

بل أي دعم روجت له الحكومات السابقة عندما لم تتدخل حتى الآن لإنقاذ قطاع الدواجن الذي ارتفعت منتجاته بشكل غير مسبوق وغابت عن موائد ملايين الأسر السورية!

قد لا يتذكر الكثيرون أن سورية، حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي، كانت تستورد معظم احتياجاتها الغذائية من حبوب وخضار وفواكه، وغيرها من السلع التموينية، وكانت الناس تقف طوابير أمام كوى “شركة الخصار العامة”، ساعات عديدة، للحصول على كيس ليمون أوعلبة محارم أو سمنة، فما الذي حصل لاحقا؟

مع بدء فرض العقوبات الاقتصادية على سورية، اعتمد القائد الراحل، حافظ الأسد، استراتيجة الاعتماد على الذات، ومحورها “الأولوية للزراعة”، وكان يتابع يومياً مراحل تنفيذ مشاريع الري والسدود واستصلاح الأراضي. وخلال سنوات قليلة، انتصرت سورية على العقوبات، ولم يعد يشعر المواطن بوحودها، ولا بتأثيرها، لأن البلد بدأ ينتج فائضاً عن احتياجاته من السلع الرئيسية والخضار والفواكه واللحوم؛ وبعدما كانت الصوامع خالية من طن واحد من القمح، في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، أصبحت سورية تعاني، في النصف الثاني من تسعينياته، من تخزين فائض لا يقل عن ثلاثة ملايين طن في العراء، وأصبحت تصدر فائضاً كبيراً من الخضر والفواكه.

ونستنتج أن العقوبات الاقتصادية على سورية قديمة، ولكنها، بما تملك من إمكانيات، حولت العقوبات إلى فرصة اقتصادية لانزال بفعل إنجازاتها المتراكمة نواجه العقوبات الجديدة، ولو لم تهمل الحكومات السابقة الزراعة، منذ عام 2003، لكان وضعنا محصن ضد أي عقوبات مهما كانت شديدة.

ونحلص إلى نتيحة حاسمة: لا يمكننا مواجهة العقوبات بفعالية إلا بدعم لامحدود للزراعة ينعكس مباشرة على حياة ملايين الأسر السورية.

 

ماذا فعلنا بالصناعة؟

أما القطاع الصناعي، بشقيه العام والخاص، فقد أخفقت الحكومات السابقة بدعمه وبتوفير الظروف المناسبة لإقلاعه بأكثر من الحد الأدنى على الأقل؛ ويكفي أن نتابع تصريحات غرف الصناعة ومعاناة الشركات العامة لنكتشف حجم التقصير بدعم الصناعة، فقد أهملتها مثلما أهملت الزراعة، بل إن وزارة المالية كانت حريصة على مر السنوات الماضية على عدم صرف اعتمادات كافية لوزارة الصناعة على الرغم من أن الميزانيات الإجمالية السنوية لشركاتها رابحة على الدوام.

والحق يقال، فإن الحكومات السابقة لم تُقصر، منذ عام 2003، بتشكيل اللجان لتطوير القطاع العام الصناعي، وقد خلصت جميعها إلى تشخيص الداء ووصفت العلاج الذي يحتاج إلى تشريعات وقرارات تتيح للقطاع العام الاستقلال المالي والإداري وتحرره من الجهات الوصائية التي تكبله ويتجاوز عددها الثلاثين جهة.

وكانت توصيات اللجان كفيلة بإحداث ثورة صناعية في سورية يقودها القطاع العام بالشراكة مع القطاع الخاص، والمعضلة أنه ما من حكومة سابقة أعلنت سبب عدم تنفيذ ولو توصية واحدة منها. وآخر هذه اللحان أنجزت مهمتها مع بداية العام الحالي، لكن الحكومة السابقة فعلت مافعله “أسلافها” من الحكومات: درستها وناقشتها ثم أحالتها إلى الأدراج المنسية، بانتظار أن تقوم حكومة جديدة بتشكيل لجنة أو أكثر لتضع خطط جديدة لتطوير القطاع العام .

لقد سبق للرئيس بشار الأسد أن أشار إلى دور القطاع العام في مواجهة الحرب الإرهابية الدولية على سورية، ويمكن أن يلمس المواطن أهمية هذا القطاع على مدار اليوم، وعلى كل مواطن أن يسأل: ما وضع سورية اليوم؟ بل ما حال ملايين الأسر السورية، لو لم يكن لدينا قطاع عام، على الرغم من أنه لا يعمل حتى بالحد الأدنى من طاقاته وإمكاناته؟

 

المسؤولية القادمة

حسنا.. الرئيس الأسد أكد بأن الرد على العقوبات يكون بزيادة الإنتاج، وهذا يُلقي على الحكومات القادمة مسؤولية إصلاح القطاع العام ليعمل بكامل طاقاته، مع ما يعنيه ذلك من تطوير وتجديد خطوطه الإنتاجية واستحداث منتجات وسلع جديدة بالتعاون مع الدول الصديقة والحليفة. ولا يمكن تجاهل إعادة هيكلة الشركات الإنشائية وتطويرها وتأمين مستلزماتها من التقنيات والخبرات، إذ لا يمكننا الاعتماد على الغير بإعادة الإعمار، فمن عمّر سورية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ونفذ سياسات الاعتماد على الذات، قادر اليوم على إعادة إعمار سورية، منفرداً في بعض المشاريع، أو بالشراكة مع شركات حليفة وصديقة في مشاريع أخرى.

نعم.. الإمكانيات “النائمة” أو المهدورة حاليا للقطاع الصناعي بشقيه العام والخاص تنتظر حكومة جادة لإيقاظها واستثمارها لامن خلال ردات فعل “يومية” ولحظية، وإنما من خلال خطط خمسية ترصد لها الاعتمادات وفق برامج مادية وزمنية!

 

المشروعات الصغيرة

قد يُفاجأ كثيرون لو عرفو أن أمريكا، التي تفرض على شعبنا العقوبات، يعتمد اقتصادها بنسبة لا تقل عن 60% على المشاريع الصغيرة والمتوسطة، كما حال الصين ودول أخرى كثيرة. والحق يُقال: ما من جهة حكومية إلا وأسهبت بالأقوال عن دعمها للمشاريع الصغير وعقدت من أجلها الندوات والورشات، منذ عام 2005 على الأقل، لكنها لم تُقرن أقوالها بالأفعال. والسؤال: هل سيتغير الحال بعد كلمة الرئيس الأسد الأخيرة عن أهمية المشاريع الصغيرة في زيادة الإنتاج للرد على العقوبات؟

وكما قلنا، فإن الحكومات لم تُقصر بدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة إعلامياً، لكن الحصيلة كانت أقل من متواضعة، وحتى الاعتمادات “الهزيلة” التي كانت ترصد لهذه المشاريع في الموازنة العامة.. كانت وزارة المالية تحجزها أو لا تفرج سوى عن النزر اليسير منها، لتتباهى في نهاية كل عام، بالحديث عن الوفر أو الفائض في الموازنة.

 

لا خوف من العقوبات

وعلى الرغم من إخفاق الحكومات السابقة من مواجهة العقوبات الاقتصادية المفروضة ظلماً بزيادة الإنتاج، فإننا نؤكد، استناداً إلى تاريخ العقوبات الاقتصادية، أنها لم تنجح بإسقاط أي نظام، ولا بتغيير سلوك ولا سياسات أو استراتيجيات أي حكومة. والمسألة هي: هل تقوم الدول المعاقبة بتحويل العقوبات إلى فرصة للاعتماد على الذات، أم باستنزاف مواردها من القطع الأجنبي لاستيراد احتياجاتها؟

تُجمع مراكز الأبحاث الغربية، ومعها المحللون، على أن هدف العقوبات الاقتصادية هو إرغام الدول المستهدفة على تعديل سياستها، فالوسائل اقتصادية لكن الأهداف سياسية.

نعم.. تؤثر العقوبات في معدلات النمو وبتراجع الناتج الإجمالي وبضعف القدرة الشرائية للعملة المحلية وبارتفاع الأسعار، ولكن ماذا تستفيد أمريكا من هذه التأثيرات إن لم تُترجم بتغيير سياسات الدول؟

لقد فرضت أمريكا حظراً على كوبا في عام 1958، وكان يشمل مبيعات الأسلحة فقط، ثم تطور ليشمل كل مجالات التجارة في العام 1962، ويعد الحصار الأمريكي على كوبا من أطول فترات العقوبات في التاريخ.. فماذا كانت الحصيلة؟

لم يؤثر في السياسات الكوبيةعلى مر السنين.

ومنذ الأيام الأولى للثورة الإسلامية في إيران، عام 1979، فرضت أمريكا عقوبات اقتصادية على حكومتها، وزادت العقوبات عاماً بعد عام لتشمل الصادرات العسكرية والاستثمارات في النفط والغاز والبتروكيماويات والبنوك والتأمين والمؤسسات المالية والشحن.. إلخ.

لم يكن هدف أمريكا من فرض العقوبات على إيران، وعلى الدول التي تتعامل معها، منعها من تصنيع قنبلة نووية لطالما أكدت إيران أنها لا تخطط لتصنيعها، وإنما لأنها تعادي الكيان الصهيوني وتدعم حركات المقاومة بالمال والعتاد والسلاح، فماذا كانت الحصيلة بعد أربعين عاماً من العقوبات؟

إيران ازدادات قوة باعتمادها على الذات، وتطورت اقتصادياً وخدمياً وعسكرياً، وغزت الفضاء، وازداد دعمها للمقاومة، بل تساعد الدول المحاصرة بالعقوبات الأمريكية.

بالمختصر المفيد: التصدي للعقوبات يختلف من دولة إلى أخرى، ومن أبرز خياراته:

– المعاملة بالمثل وهذا خيار الدول القوية اقتصادياً وعسكرياً، مثل الصين التي تربطها علاقات تجارية كبيرة مع أمريكا، أي تستطيع التأثير مثلما تتأثر.

– شراكات تجارية جديدة، مثلما فعلت روسيا بتمتين علاقاتها التجارية مع الصين ودول البريكس ومنظمة شنغهاي، والتشبيك مع رابطة دول أوراسيا.

– الاعتماد على الذات، مثلما فعلت كوبا وكوريا الديموقرطية وإيران وسورية.