رؤية بصرية خائنة.. “يا بائع التفاح”
” البعث الأسبوعية ” رامز حاج حسين
كنت صغيراً ألعب فوق أوراق كتب التربية والتعليم التي كانت تطبع حينها بشكل خلاب في مطابع أنيقة تحمل رائحة الورق ورائحة عرق وتعب عمال سمر يشبهون أبي وعمي وخالي. كنا نتبارى حين نستلم الكتب المدرسية لتجليدها والحفاظ عليها والعناية بها ورعايتها كاهتمامنا ودلالنا ورعايتنا للمحبوبة التي نلناها حين أمسينا شباباً. نفارقها – أقصد كتبنا المدرسية – نهاية كل عام، كما نفارق من نحبهم أمام مفارق الحياة كل حين، بدمع وحسرة وتنهيدة تخرج من عمق الروح الطرية.
من الذي أفقد أطفالنا هذا الرونق والطقس البهي في التعلق والحب والشغف بكتب مدرسته ومجلاته وقصصه؟ لماذا لم أعد أجد طفلاً يشبهني بألقه وتعلقه وهو يفتح نافذته وكأنه سمع نداء سليمان العيسى في قصيدته “يا بائع التفاح”؟، وأرى رأي العين أن رسوم ممتاز البحرة تناديه وتحاوره، فأظنها مثلي حقيقة كامنة أمام مفرق الشارع المقابل؟.. هناك بائع للتفاح ينادي وهو يمسح التفاح بمنديل نظيف ليزيد إغراءنا بشرائه. لماذا لم أعد أجد أطفالاً مثلي حين كنت ألملم أوراق أيلول الصفراء، وقد فتحت النسمات كتابي على رائعة العيسى: “ورقات تطفر في الدرب والغيمة شقراء الهدب”، وقد انبثقت تلك النسمات من ريشة البحرة، وهو يرسمنا نتغنى بأيلول وبالريح وبالحياة؟ لماذا غابت كلمات الحب ولغتها البصرية العالية؟ أي حجة ودليل على صدق هذه الحجة التي تُشاع عن تطوير المناهج بصرياً، والقصص والكتب والمجلات؟ أي تطوير لا يملك هوية أهل الحي، ورائحة التمر هندي، وعروق السوس المجففة بأشعة شمس سورية، هو جزء فقير من محاولات بائسة للتغطية على فشل القائمين فنياً على كل ما ينتج للطفل بعيداً عن هويته البصرية التي يجب أن تمتد امتداد الحضارة والنبل في جيناته!!
لفتة صغيرة
يكمن الجواب لدى من استبعد، مثلاً، قصيدة، للشاعر الشاب قحطان بيرقدار، تتحدث عن سورية “سورية ربي يحميها”، ولم نعد نرى مثيلاتها في كراسات وكتب أبنائنا.
الجواب لدى من تخلى عن صبغ الكتاب المدرسي السوري بهوية رسامين سوريين مازالوا داخل سياج الورد الذي يسيّج أرض الوطن، من الغلاف بجلدتيه إلى المتن الداخلي والرسوم التوضيحية لكل نص وفقرة وموضوع.. في من تصدى ليتربع على عرش دار نشر محلية سورية تنتهج لنفسها فن اليابان والأوربيين والأمريكيين وكل أجنبي غريب عن حضارة طفلنا.
الجواب لدى من يتندر علينا بأن مواكبة الحضارة لا تعني التعلق بالشروال والغترة والشال المطرز، بل يزيد إمعاناً في تهكمه بأنه يجب التخلي عن كل ما للهوية البصرية من مدلول، لكي يخرج من شرنقته ويتحول إلى فراشة زاهية مزركشة – حسب زعمه.
لعمري لوحة واحدة، فيها شال مطرّز ترتديه السورية الفلاحة، وهي تحمل طفلها الباكي من حر الشمس بيد وباليد الثانية تعمل على تنديف القطن الأبيض من جوزاته على السيقان الخضر اليانعة، خير من ألف لوحة تفاخر بناطحات سحاب إسمنتية بحجة الحضارة.
في حب التباهي، يشرد المسؤول الفني – المكلف بتطوير المناهج والقصص والكتب والمجلات، وتحسينها – عن البوصلة الأساس، ألا وهي ذائقة الطفل السوري البكر. هذه الذائقة التي صُقلت عبر آلاف من السنين عبر حركة حضارية حقنها الأجداد في جينات هذا الشعب، كما حقنت أصابعهم السمراء هذه الأرض بإكسير الحياة الناجع.. وما رشح من تلك الحضارة من أوابد وصروح ولوحات تزيينية جميلة هو ما يجب أن يتجلى في كلّ ورقة مطبوعة في هذا الوطن، ومقدمة للطفل على أنها وجبة ثقافية تربوية تعليمية وترفيهية له.
حصة الرسم المهمشة، والتعاطي مع الفن للطفل على أنه كمالية زائدة، وغير ضرورية لبناء شخصيته وكيانه وذائقته البصرية، يزيد الشرخ اتساعاً.
ولو نخرتم!
“الذائقة البصرية الخائنة”.. العنوان يلمّح لاتهام خطر وزائد عن حدود اللباقة في الحوار، لكن لن نستطيع التراجع عن اتهام من يعنيه الأمر، ويقصّر، بأن هناك ذائقة بصرية خائنة.
.. خائنة له نفسه وهو يربي أولاده من دمه، وأبناء من يحب، على فن غير فنهم.
.. خائنة للإرث الحضاري الكبير حين لا نجده متجليّاً نقياً بكراً في ما يُنتج.
.. خائنة لتطلعات أناس جبلوا لبنات بناء هذا الوطن بعرقهم وشغفهم، وكثير منهم بدمهم، شهداءً لرفعة هذا البناء.
لذلك وجب على كل من يتصدر المشهد الفني والبصري لأطفال سورية أن يعلم علم اليقين أن الحق واضح في هذا المجال.
إما أعيدوا لنا ألق رسوم ممتاز البحرة في المناهج التي أعدمتموها بمقاصل التطوير – وأي تطوير مزعوم هذا الذي لا يملك من الخطى إلا الطائش منها، مع أن البوصلة واضحة؟! – أو أعيدوا بناء خططكم على أسس أكثر محلية وتواصل مع الفن السوري العريق الذي ننتمي إليه كالروح منتميةً للجسد، والرجوع للحق والحقيقة واجب وطني مقدس في هذا المضمار.
المثال: “ولو نخرتم” يأتي من كتب الثقافة والتراث، حين قال نجاشي الحبشة، بعد أن سمع مقالة جعفر بن أبي طالب: “إن ما يقوله هذا الشاب عن قرآنه وما نزل على موسى وعيسى ليصدرون من مشكاة واحدة”.. فتناخر أعوانه ووزراؤه حوله، فالتفت إليهم، وقال متحدياً مواظباً على تمسكه بحق قوله: ولو نخرتم!