مجلة البعث الأسبوعية

من يشكل الذائقة الأدبية

سلوى عباس

تتطلب الذائقة الأدبية الكثير من المعرفة، كي تتيح لنا الاستمتاع بالإنتاج الأدبي، فالأدب يحتاج إلى الثقافة الأم ومن ثم الثقافة الإنسانية ثم الثقافة الكونية لكي تتشكل لدينا الذائقة، والثقافة تدخلنا في دائرة المثاقفة وتزيدنا معرفة في كيفية التعامل مع الآداب العالمية كلها حتى وإن كان هناك اختلاف في الثقافة، فالذائقة تتطور وتتسع بحسب ماهية وعينا وكيفية استدراكنا للثقافات الأخرى، فالذائقة موجودة أصلاً وتتنامى، وتمثل اللغة مادتها الأهم لأنها تُحكى ويتم تداولها، وهي أيضاً تنطق ويطرأ عليها تغيير فتكون في متناول الذائقة التي ترتكز عليها المادة وتتطور بتطورها وتأخذ أشكالها الجلية بحسب الأرضية التي تقف عليها، وكما أن اللغة هي حاملها الأول، هناك أيضاً النص الذي يحمل هذه اللغة ويكتب بها، فهو يمثل المادة الحقيقية التي تبنى عليها الذائقة سواء أكان النص محكياً أم مكتوباً، لكن السؤال الذي يحضر هنا كيف تتشكل الذائقة الأدبية؟ ومن الحامل الأساسي الأول: النص الأدبي أم المتلقي؟

هناك من الأدباء من يرى أن النص الأدبي هو الحامل الأساسي للذائقة، بما يحمله من قدرة على الجذب والتشويق والشغف والإثارة والإفادة والغنى، وبعد هذا تأتي خلفية القارئ الذي قد يكون قارئاً جيداً مستعداً للتذوق على المستوى النظري، لكن ظروفاً نفسية ما قد تسيطر عليه في بعض الأحيان تجعله ينفر مما يجب الانجذاب إليه، ويقبح من يستحق المديح، ولا يمكننا هنا أن ننكر دور الناقد.

وهناك من يرى أنه حتى تتشكل الذائقة، فإنها تتربى تربية الإنسان، وتصقل كما تصقل الموهبة، ولن تتشكل ذائقة المتلقي ما لم يكن قادراً على استكشاف جماليات النصوص التي من شأنها تنمية ذائقته، واستكمال فعل الحاسة الجمالية، فالنصوص مهما بلغت من جمالها تتطلب ذائقة تشكلت عبر مراحل نموها الطبيعية، ولن يتمكن نص من تشكيل وعي المتلقي ما لم تكن هناك أسس جمالية متوطنة في النفس الإنسانية.

رأي آخر يرى أن النص الجيد الصادق الكاشف يخلق المتلقي، ويسيطر عليه، ويضيف إليه، ويجعله منحازاً له، ولكل ما شابهه من إبداع جميل إنساني، سواء عبر لوحة أو مقطوعة موسيقية، أو حتى منظر طبيعي حوله، فالنص الأدبي يشكل جوهره لدى المتلقي بعد انتهاء الكاتب منه فيبدأ هو في الاكتشاف، وقد يحفزه النص في البحث داخله عن قدرة على الكتابة، أو حتى على النقد، والفن الجيد جزء من روح صاحبه، وجزء من إنسانيته في أرقى صورها، لذا لا عجب أن تتفاعل مع قارئ أو متلقٍ به حب وشغف يشبه صاحب العمل الأدبي أو الفني عموماً، وبالتالي لو لم يوجد النص لما وجد المتلقي، فالنص سابق على القراءة، وعلى النقد، وحتى على محاولات تنفيذه إخراجياً، فالقارئ حين يتفاعل مع العمل يصنع نوعاً من المشاركة مع شخوص العمل، ومع مؤلفه في الوقت نفسه، يشعر بهم، ويصبح له رأي في أدوارهم أو طبائعهم، فالفن يمنح المتلقي وجهة نظر خاصة في كثير من الأمور، أي يضيف إلى وعيه من خبرات الكاتب، وهنا يكمن الخوف من الكتابات الرديئة والرؤى البعيدة كل البعد عن الرقي الأدبي والإنساني، فهي تهبط بوعي القارئ إلى الغث والرديء، وتؤثر على نظرة الأجيال الجديدة للمستقبل.

وانطلاقاً من الآراء السابقة التي قد نتفق معها وقد نختلف نؤكد على أن النص الجيد هو الذي يشد المتلقي ويجعله شريكاً مع الكاتب في أفكاره، وبالتالي تواصل الذائقة النمو ولا تتوقف، إذ لها تربتها وهواؤها وماؤها، كما لها أدواتها التي تتطور معها، إضافة للمفاتيح التي تدخل وتدور في أقفال الثقافة والمعرفة.