مجلة البعث الأسبوعية

المنمنمات الموسيقية.. في تجربة مجد كيالي التشكيلية

حلب- غالية خوجة

لعلّ في كل منا صبغية أبجدية تتفرّد باللا وعي الباطني لتظهر منهجيتها في الوعي وتأخذنا من ناصية أحلامنا إلى الحياة، فنمشي في دروبها لا يهمنا الوصول بقدر ما يهمنا الإنجاز من أجل جاذبية الضوء التي تشدنا، وهذا هو حال المبدعين على مرّ الأزمنة والأمكنة، وهو حال المدن بحضارتها وعراقتها وكينونتها وهويتها الغائرة بملامح لا تشبه إلاّ ذاتها ومنها مدينة حلب بمعالمها الشاردة في حياتنا وكأنها شخوص معمّرة، يكتب عن حالاتها الأدباء، ويرسمها التشكيليون، ويعزفها الموسيقيون، ويشتاق لرؤيتها المقيمون والمغتربون والقاصدون.

وكم مرّت الشهباء بالشعراء، ومرّ بها المؤرخون والمستشرقون والروائيون والقصاصون والجغرافيون والعلماء والباحثون والفلاسفة والموسيقيون والفقهاء، وأشهرهم أرسطو ومحمد كامل الغزي والمتنبي وسيف الدولة ونزار قباني وعمر أبو ريشة ووليد إخلاصي وأورنينا وصباح فخري وأم كلثوم وفريد وأسماء الأطرش والمعري ولؤي كيالي وشريف محرم.

ومن هذه المدينة يطل التشكيلي مجد كيالي خريج كلية الاقتصاد والتجارة عام 1984، الذي شغل منصب مدير المصرف التجاري السوري عام 1999، والذي لم يعلم أنه سيكون ذاك الفنان الذي انتسب لمركز فتحي محمد عامي 1976-1977، ليطور موهبته وهي تعزف تأملاته بإبداع لوني زيتي أفقه السمت الإنساني بهويته الشرقية التراثية وتحولاته الكلاسيكية.

فبين إقامة وترحال وعودة، نرى كيف تذكّرنا لوحاته بالماضي المعاش وهو يستعيد مشاهده من ذاكرتنا السمعية لنردد الأغاني مع أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، أو لنغني أهاته مع آلة الناي والقانون والعود والكمان والدف، وكأننا في لحظة استماع إلى خدعة بصرية تكنولوجية حديثة تُعرف بـ”الهولوغرام”، فتتجسّم الأبعاد إلى حدّ ما، لكنها تستعيض عن بعدها الثالث بخطوط عمودية وأفقية، وكانها تعيدنا إلى مرحلة “الهولوغراف” لتكون مخيلتنا ذاك الوسيط الذي يحوّل ما تمّ تسجيله إلى ذاك البعد الخادع بصرياً بعدما نضيف إليه من أشعتنا ما نريد أن نراه في تلك التقاطعات بطريقة مجسمة.

شهرزاد الألوان

تقريباً، هذا ما تعكسه 21 لوحة من أعمال كيالي اختارها من تجربته في معرضه الفردي الثالث عشر في صالة الأسد للفنون الجميلة، وهي تعطي البطولة للمطربة أم كلثوم والملحن السنباطي وفرقتها الموسيقية إضافة إلى شخصيات تعكس مشاهد من الموسيقا الشعبية، وتراثها في الحفلات والأعراس، وما تبوح به رموزها النفسية والشرودية بين ذاتها والآلة، وما يظهر على ملامحها الوجهية من تعابير، وعلى أصابعها وهي تضم الآلات الموسيقية لتحرك وتعزف الحالة التخيلية المشتركة بين فنانها وشخوصه والمشاهدين.

ويبدو أن الفنان، ومن خلال تجربته وتقنياتها الفنية، يحاكي حواس الذاكرة المترسبة في أعماقه مستفيداً من تجربة العديد من الفنانين، فخطوطه التقسيمية تشير إلى خطوط التكعيبية، وأجزاؤه المشهدية تشي بمقاهي الكثير من تجارب الفنانين، وألوانه المتدرجة بين البني والأحمر تعكس ألوان الخشب والتراب والقصب كإضاءة وسينوغرافيا وآلات وأجزاء من الشخصية كاليد وكأنها تخبرنا عن حالة من التلاحم بين الفنان والمعزوفة والمكان، بينما الزمان فيتحرك كما الأوتار بين غرف اللوحة ومنصاتها المربعةأو المعينة أو المستطيلة أو الدائرية، المتداخلة حيناً، والمجزأة حيناً، فتبرز التفاصيل لتأخذ دوراً من أدوار البطولة.

أمّا الحواريات المونولوغية والديالوغية فتتكفّل بإنتاجها أوراق النوتة البيضاء ليكتب عليها المتلقي اللحن الذي يريده، أو الأغنية التي تخطر له آنَ استماعه للوحة.

وتظهر من التراث الفلكلوري الموزع على اللوحات شخصية الحكواتي وهو يتنقل بين الحكايات وأبطالها مثل عنترة بن شداد وذي يزن والخرافات الشعبية، ورغم الحزن تتداخل ملامح الفرح من خلال الزخرفة اللونية الحمراء والزرقاء والصفراء والخضراء والبيضاء لتمنح موسيقاها إلى فسيفسائيتها الأقرب إلى التنقيطية تارة، وإلى النقوش الأثرية المعمارية تارة أخرى.

ولا تنجو حكايات ألف ليلة وليلة من ألوان شهريار الذي يرى شهرزاد اللوحات غارقة في حكاياتها المسلية وتداعياتها المنسوجة بمرايا الفنان الداخلية، مسقطاً عليها حالاته الداخلية، جاعلاً من الحكاية معزوفة أخرى تتداخل مع الصمت والكلام المباح.

كما تكتسب اللوحات شعبيتها في تلك المقاهي التي يجلس فيها المتحاورون بين دخان أفكارهم ونرجيلاتهم، فتظهر الواقعية التصويرية بوضوح، تلك الواقعية التي تتخذ خطوطاً أخرى عندما تزدحم الشخوص بين العناصر لتغطي الزخارف أجزاء من أجسادها الراقصة أو الجالسة أو الحاضرة الغائبة، وأفكارها وفراغات اللوحة، لتظل في عالمها المقروء مطلة من تلاوين الشرود البارزة في اللغة البصرية.

ولا تظل المنمنمات الموسيقية في فضائها الشرقي لأنها تأخذنا إلى فرقٍ سيمفونية كلاسيكية تعزف على مختلف الآلات الوترية، فنسمع ما يجول في فضاء اللوحة ومنصتها من موسيقا، مثلاً سيمفونية ضوء القمر لبيتهوفن، أو بحيرة البجع لتشايكوفسكي.

وتتوارد خواطر الآلات في اللوحات المقسمة إلى أشكال هندسية، متضمنة، وبطريقة كولاجية توزيعية، العديد من معزوفات الناي والإيقاع والدف والبزق والتشيللو والعود، لتتناغم كلحظة متصوّفة غارقة في أعماق العازفين والعازفات، الشاردين والشاردات في الحالة العرفانية المنعكسة من الملامح ولون الأردية واستغراق العيون في إغماضات تأملية مشعة بالأصفر والأبيض وتدرجاتهما التي تزيح الأسود والرمادي والشرود إلى الفناء.

معزوفات معمارية بفلاشباكٍ لوني

وإذا ما اتجهنا إلى معزوفته المعمارية، فنراهُ يؤلف أغنية بانورامية من المنمنمات والنقوش والزخارف الهندسية والزخارف التي تشتهر بها معالم مدينة حلب القديمة، فتبدو ذكريات شبابيكها الخشبية متدلية مثل عرائش الذين كانوا يسكنونها، وتشتبك الفصول وهي تجول بين القناطر والأسواق القديمة بأقواسها وسقوفها وأناسها، ولربما عادت بنا إحدى اللوحات إلى زمن أبعد من خلال الجِمال وهي تمضي في قسم من اللوحة المزركشة بأقمشة من الحرف اليدوية بلونها الأحمر وتدرجاته وزخرفاته المتعالقة مع الأبيض والترابي ولون الرمال الهادئة، بينما ألوان العباءات السوداء تلفتنا إلى النساء المتجهات إلى الأمام وهن يمضين بطمأنينة إلى أشغالهن وهن يتبادلن بعض الأحاديث التي يخمّنها المُشاهد وهو يتابعهن في قسم آخر من اللوحة بأبعادها الانطباعية الشرقية.

ولقلعة حلب والأزقة المحيطة بها تفاصيلها الواقعية حيناً كرسم لمعلم أثري، ولها حضورها الزخرفي حيناً آخر، خصوصاً، عندما يرسمها كيالي بتجريدية زخرفية باللون الأبيض وتدرجات الأزرق ليخبرنا بأنها مبعث الأمان الروحي ونوافذه الصاعدة من الأرض إلى السماء، وهذه الروحانية تبرز في أعماله الأخرى مثل لوحة “قرأت مجدك” التي تتداخل فيها معالم دمشق برمزية زخرفية هندسية بين مستطيل ومثلث ودوائر بألوان زاهية متفائلة، تتناغم فيها بوابة سوق الحميدية القريبة من عناصر اللوحة بشبابيكها وقببها ومآذنها وقنطرتها الأثرية تناغماً تميل فيه مع كلمات القصيدة التي كتبها الشاعر سعيد عقل، وغنتها فيروز، وكتبها الفنان بستّ موجات متمايلات باللون الأبيض كما الغيمات الصاعدات إلى السماء عبْر السلّم الموسيقي، لتلتحم مع المستطيلات اللازوردية والزرقاء الغامقة والشمس البيضاء المزخرفة بصفاء زهرة “اللوتس”، أو بدورانها المولوي مع كتلة اللوحة وفراغها في آنٍ معاً.

لوحات المولوية وفضاءاتها المائلة إلى ألوان الشروق بين صمت الطاقة وصوتها، وألوان الأردية وهي تدور وكأنها تشي بأن الإنسان يحاول أن يتخلص من شوائبه الباطنية من خلال هذا الدوران المتعاكس مع الزمان في محاولة للعودة بأثر رجعي، أو بفلاشباكٍ لوني، إلى الفطرة البريئة.

بورتريه

نذكر أن للتشكيلي مجد كيالي المولود في حلب عام 1961 تجربة متنوعة بين البورتريه والحروفية والطبيعة وعوالمه المهتمة بالذاكرة التراثية لا سيما مدينة حلب القديمة ومعالمها وآثارها الإنسانية العالمية، إضافة إلى اهتمامه بفن البورتريه مثل لوحته للشاعر محمود درويش وهو يحدق بعين إلى قلبه وعين إلى فلسطين، بينما بصيرته فمفتوحة على سؤال مجموعته “لماذا تركت الحصان وحيداً”؟، وتجذبنا لوحته التي تتلون بيت شعري للمتنبي، كما تجذبنا لوحاته المتحركة بين الموسيقا الشرقية والغربية، وتلك التي ترفرف مع حمامات السلام وحقول السنابل والشروقات والغروبات، تماماً كما فنانها الذي أقام العديد من المعارض داخل سورية وخارجها ومنها الإمارات العربية المتحدة وإيطاليا وسويسرا وألمانيا واليابان.