مجلة البعث الأسبوعية

نقوش .. قوة الحياة

 

” البعث الأسبوعية ” محمد كنايسي

في حبه اللامحدود للحياة، يعبر الانسان عن فطرة سليمة، ويثبت دائما أن لا حدود لقدرته على التمسك بها، والمقاومة بضراوة في سبيل استمرارها..

مع ذلك يزخر عالم الأدب مثلا بآثار كثيرة يعبر فيها الأديب عن تبرمه وسخطه ونقمته على الحياة، بل ان هناك من الأدباء والفنانين الكبار من اختار الانتحار.. فهل فعلوا ذلك كرها بالحياة كما يتوهم كثيرون؟ .. ألم يطلق المعري صرخته التي سيبقى صداها ما بقيت الحياة:

خاطني خالقي فعشت ولولا

خوفه قلت ليته لم يخطني

جسدي خرقة تخاط الى الأر

ض فيا خائط العوالم خطني

ألم يوجه بودلير دعوته الغريبة الى الموت:

أيها الموت / أيها القبطان العجوز / لقد آن الأوان لرفع المرساة..

هل هو زهد المعري أم احتجاجه؟ وهل هو سأم بودلير أم بحثه عن الجديد حتى في الموت كما جاء في نهاية قصيدته الشهيرة؟

أزعم أن لا أحد يكره أو يستطيع أن يكره الحياة، فالحياة في حد ذاتها هي النعمة الكبرى، وليس هناك شيء أثمن منها، وإلا فلماذا يستبسل المصابون بالأمراض القاتلة في مقاومتها وتحمل آلامها حتى الرمق الأخير، ورغم معرفتهم أن النتيجة محسومة سلفا! ولماذا يدفع المحكوم علبه بالاعدام كل ما يملك من أجل تخفيض الحكم الى السجن المؤبد، أليس الموت أرحم في هذه الحالة؟!

الأمر لا يتعلق إذا بالحياة في حد ذاتها، بل بشروطها القاسية التي تكون أحيانا أقسى من قدرة الانسان على التحمل، ومن الطبيعي في هذه الحالة ألا تكون نظرة الذي يعيش عيشة مرفهة للحياة، والذي يعيش الفاقة والبؤس، نظرة واحدة، ومن الطبيعي أيضاً أن تقود بعض الأسباب الشخصية صاحبها الى الانتحار الجسدي أو العقلي دون أن يعني ذلك كره الحياة أبداً..

وإذا نظرنا في الطبيعة المعقدة لعلاقة الانسان بالحياة سنجدها محكومة بعاملين رئيسين: الأول غريزي يتجسد في غريزة البقاء التي تفسر تشبث الانسان بالحياة، وإقدامه على فعل ما يجافي العقل والاخلاق والقانون في سبيل البقاء، والثاني قيمي هو ما يجعل الانسان ككائن عاقل يتمكن من التحكم بهذه الغريزة، ويعطي الحياة معناها الانساني الفريد الذي تبرز فيه قيم التضحية والشهادة والفداء وغيرها من القيم التي تجعل الانسان قادراً على التضحية بحياته في سبيل ما يعتقد أنه يستحق هذه التضحية، شرط أن يكون الاعتقاد سليماً من الناحية الاخلاقية والانسانية، إذ لا مقارنة بين الاستشهاد دفاعاً عن الوطن، وبين الانتحار الارهابي مثلاً..

ثمة من يطلبون الموت ليس للتخلص من الحياة، بل لتكون أفضل للآخرين، كما في حالة الشهادة التي هي تضحية بالحياة في سبيل الحياة..

وحتى الذين يقدمون على الانتحار للأسباب الشائعة المعروفة، كالفشل مثلاً، لا يفعلون ذلك كرهاً بالحياة بل لعدم قدرتهم على تحمل الآثار الاجتماعية والنفسية لهذا الفشل..

وخلاصة القول إن قوة الحياة هي ما يجعلنا لا نفكر كثيراً بالموت، ونستطيع الاستمرار حتى ولو فقدنا من نحبهم، واعتقدنا في البداية أن الحياة بدونهم مستحيلة.