مجلة البعث الأسبوعية

أسلحة الحرب على اليمن “صُنعت في فرنسا”.. فظاعات استهداف السكان المدنيين… وثروات طائلة للشركات المصنعة

البعث الأسبوعية-هيفاء علي

 لم يعد خافياً على أحد دور فرنسا في الحرب الشرسة التي تتعرض لها اليمن منذ عام 2015، بقيادة قوات التحالف، لجهة تزويد تلك القوات بشتى أنواع وأصناف الأسلحة الثقيلة والخفيفة، دون الإدراك أن هذه حرب دمرت الحجر والبشر، وتسببت بمجاعة حقيقة جراء نقص الأغذية نتيجة حصار الموانئ، إضافة الى تفشي الأوبئة والأمراض خاصة لدى الأطفال وكبار السن، بسبب نقص الأدوية وانهيار النظام الصحي.

وعلى الرغم من التوصل الى هدنة بين اللجان الشعبية والقوات المدعومة من قبل الدول المعتدية، إلا أنه تم خرقها مراراً وتكراراً، حتى المبعوث الأممي الى اليمن، هانس غروندبرغ، كان عاجزاً عن تحقيق أي تقدم يفضي إلى إنهاء الحرب وإرساء السلام في البلاد.

ولكن منذ أيام تبذل سلطنة عمان جهوداً مكثفة لإنهاء الخلافات بين الأطراف المتحاربة حول بعض الملفات ذات الصلة بتمديد الهدنة وتوسيع إطارها، حيث أشارت بعض المصادر بوجود تقدم في تلك الجهود قد يفضي إلى إتفاق جديد على تمديد الهدنة، مضيفةً إن المسائل المتعلقة بفتح مطار صنعاء ورفع الحصار عن موانئ الحديدة، قد حسمت بالفعل، كما جرى إحداث تقدم في ملف الأسرى والمعتقلين.

من كان يجهز ويصلح طائرات التحالف؟

منذ بدء المعارك الكبرى، كان السؤال هو أين يتم تشكيل المقاتلين العسكريين، وأين تُنتج القنابل التي تضرب الأسواق والمنازل اليمنية؟.  هذا ما كشف النقاب عنه تحقيق مطول نشره مواقع مجلة “أفريقيا- آسيا” مطلع الشهر الجاري، ويتطرق الى الشركات الفرنسية الكبيرة التي ساهمت في الحرب بدعم من الحكومة الفرنسية. وقد أشار التحقيق في بداية الأمر إلى أن الحرب على اليمن أسفرت عن مقتل 110 آلاف شخص خلال سبع سنوات، منهم قرابة 13 ألف مدني، وفقاً لبيانات المنظمات غير الحكومية المتخصصة في جمع البيانات حول النزاعات المسلحة. ولم تكف الحكومة الفرنسية منذ انطلاق التدخل العسكري للتحالف في آذار 2015 عن نفي تورط فرنسا. ففي كانون الثاني 2019، أكدت وزيرة القوات المسلحة آنذاك فلورنس بارلي أمام أهم الإذاعات الرسمية أن فرنسا لم تقم مؤخراً ببيع أي قطعة سلاح يمكن استخدامه في الصراع اليمني، زاعمة أن المعدات التي تم تسليمها تُستخدم فقط “لضمان حماية دول الخليج”.

وبعد بضعة أشهر، تحديداً في 15 نيسان 2019، أثبت تحقيق أجراه موقع “ديسكلوز” الاستقصائي تحت عنوان “صُنع في فرنسا” عكس ذلك، حيث أكدت أن طائرات ومروحيات ودبابات ومدافع فرنسية لم تشارك في هجمات التحالف فحسب، بل استُخدمت هذه الأسلحة لاستهداف المناطق المأهولة بالسكان المدنيين.

كما عمل وزير الخارجية الفرنسي السابق جان إيف لو دريان جاهداً على الحفاظ على الرواية الرسمية التي تنفي تسليم الأسلحة للتحالف، وهي كذبة تتجاهل تسليم شحنات من أدوات الليزر لتحديد الأهداف من صنع شركة “تاليس”، والتي تم إرسالها على الأقل حتى 2017، فضلاً عن آلاف الصواريخ المصنوعة في فرنسا والتي تم تسليمها لتحالفها العسكري.

زيادة على ذلك، أعطت الحكومة الفرنسية -فقط خلال سنة 2019-الضوء الأخضر لـ 47 عقداً لتصدير ذخيرة إلى قوات التحالف، وطوربيدات وصواريخ وقذائف موجهة ومواد متفجرة أخرى، بقيمة إجمالية قدرها و4.5 مليار يورو، وفي 2020، سجلت هذه التراخيص ارتفاعاً بنسبة 65٪.

لكن الشارع الفرنسي غير راض عن هذا الأمر، بل ويطالب حكومته بالتوقف عن إرسال الأسلحة الفتاكة، كما بات الرأي العام الفرنسي أقلّ تقبّلاً للفجوة الكبيرة بين خطابات فرنسا وأفعالها فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان. ففي مرسيليا ولوهافر، منع عمال الميناء شحنات موجهة إلى قوات التحالف. وفي البرلمان الفرنسي، دعا نواب ومنظمات غير حكومية إلى فتح لجان تحقيق وتعليق الصادرات إلى التحالف، وقد أصبح اليوم غالبية الفرنسيين يؤيدون رقابة معزّزة على تصدير الأسلحة دون إثارة ضجّة، بينما تراقب المخابرات الفرنسية بشكل متزايد استخدام الأسلحة الفرنسية في ميادين القتال الأجنبية، وخاصة في اليمن، باستعمال استخبارات بالأقمار الصناعية. وتحت ضغط وسائل الإعلام، أخذت شحنات الأسلحة إلى قوات التحالف في الانخفاض عام 2020، ولكنها مع ذلك لم تتوقف، ولا يزال التعتيم كلياً.

ثلاث شركات فرنسية كبرى ومتعهّدوها متورطون في حرب شرسة أسفرت عن مقتل أكثر من 13 ألف مدني خلال سبع سنوات، وهي مجموعة “تاليس” التي تزود الطائرات المقاتلة وتسلم الذخيرة، وشركة تصنيع الصواريخ الفرنسية البريطانية “إم بي دي إيه”، وشركة “داسو” للطيران، التي تقوم بصيانة طائرات ميراج 2000 وكسبت عقوداً قياسية. وفي الأوّل من حزيران 2022، رفعت أربع منظمات غير حكومية دعوى ضد هذه المجموعات الفرنسية الثلاثة بتهمة “التواطؤ في جريمة حرب في اليمن”.

  25 ألف غارة جوية

بحسب مراقبين، لم يسبق في التاريخ الحديث أن تطَلَّب نزاع هذا الكم من الصواريخ، والقنابل الموجهة، وقذائف المدفعية، والطائرات بدون طيار، وأنظمة الدفاع الجوي. وقد أحصت المنظمة المرجعية لمشروع بيانات عن اليمن وقوع 25 ألف غارة جوية منذ عام 2015، تاريخ بدء العدوان.

ورغم إعلان التحالف وقف إطلاق النار في 30 آذار 2022، لم يوضع حدّ لغارات عملياتها المسماة “إعادة الأمل”. ووفقاً لمنظمة “أكليد”، فقد قُتل في غضون 5 أشهر ما يقارب 400 يمني، ونفذ التحالف ما يقارب 200 قصف جوي.

في فترة رئاسة فرانسوا هولاند، لم يكن للقانون الدولي وحياة اليمنيين أي وزن أمام المصالح الاقتصادية الفرنسية داخل اللجنة الوزارية لصادرات الأسلحة، وفي صيف 2016، بعد سنة ونصف من بدء العدوان، بددت وزارة القوات المسلحة مخاوف الدبلوماسيين في وزارة الخارجية والذين كانوا قلقين بشأن عدم التطابق مع التزامات فرنسا الدولية. كان من المستحيل إعادة النظر في عقود أُبرمت مع دول تمثل ما يقرب من ثلث حجم الصادرات الفرنسية، وأيّد ديوان فرانسوا هولاند، بل وأمر حتى، بـعدم الرجوع على القرار المبدئي لدعم شركاء فرنسا الاستراتيجيين من خلال صادراتنا، على حد زعمه.

محركات صواريخ من جنوب فرنسا

بعد وصول إيمانويل ماكرون إلى السلطة في 2017، تم الاحتفاظ بعقيدة هولاند مع استثناءات ضئيلة. وخلال الفترة الأولى (2017-2022)، أعطت اللجنة المشتركة بين الوزارات ما لا يقل عن 164 رخصة تصدير للذخيرة الى قوات التحالف، ولم يتم التراجع  سوى عن عدد قليل من العقود. وقد اضطر مصنع ذخيرة “تاليس” إلى إيقاف شحناته ابتداء من صيف 2020. ويقول موظف في فرع الدفاع لمجموعة “تاليس” التي تمتلك الدولة الفرنسية 26% منها: “حذّرت مصالح الدولة تاليس بأنه لن يتم تجديد رخصة التصدير السارية حتى حزيران 2020، وبالتالي سارع موظفو لافيرتي بشحن الطلبيات السارية. لم يكن هذا العقد بقيمة بعض الملايين من اليورو حاسماً بالنسبة لمصنع يعتمد بنسبة 70% على طلبيات وزارة القوات المسلحة الفرنسية.”

“داسو”.. تكوين وخدمة ما بعد البيع

“داسو” رائد آخر في صناعة الدفاع الفرنسية المصنعة لطائرات “ميراج” المقاتلة. تحتاج هذه الطائرات المدججة بالإلكترونيات معاينة مستمرة أكثر من الصواريخ، إذ يجب مراقبتها وتحديثها باستمرار من طرف مهندسي مجموعة “داسو”، بما في ذلك في خضم الحرب على اليمن، حيث تُعد هذه الطائرات المقاتلة حلقة أساسية في أسطول قوات التحالف.

تضمن مصلحة ما بعد البيع دخلاً مريحاً للصناعيين، وقد جلب عقد التحديث لنحو 30 طائرة “ميراج”، 418 مليون يورو لشركة “داسو”. وقد وعد رئيسها التنفيذي إيريك ترابيي بـتلبية الاحتياجات التشغيلية، ويعني ذلك بصفة واضحة أن المهندسين الفرنسيين يقومون بتحسين أنظمة الرادار وكشف الأهداف لتمكين قوات التحالف من مواصلة تدخلاته العسكرية ومن بينها في اليمن وليبيا.

الكونفدرالية العامة للشغل مع وقف مبيعات الأسلحة

لتبرير استمرار عقودهم مع قوات التحالف، لا يتوانى الصناعيون في التحجج بحماية مناصب الشغل في فرنسا، لكن الحجة أبعد من أن تصادق عليها النقابات. تخوض الكونفدرالية العامة للشغل (CGT) داخل مجموعة “تاليس” منذ عدة سنوات حراكاً لوقف بيع العتاد الحربي المستعمل في الحرب على اليمن. وفضلاً عن القنابل المصنّعة بوسط فرنسا، فإن مجموعة “تاليس” هي أيضاً المزود الرسمي لأدوات الاستهداف للقوات الجوية لقوات التحالف. تسمح هذه النظم البصرية الحديثة بتوجيه نيران الطيران المقاتلة بدقة وتجنب الأضرار الجانبية، إلا عندما يكون المدنيون جزءاً من الأهداف المحددة، كما كان حال الحافلة التي تقلّ تلاميذ المدارس والتي دمرتها ضربة جوية من طائرات التحالف في آب 2018.

وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، تنتشر تجهيزات الطائرات الفرنسية “تيفون”، و”تورنادو” على نطاق واسع بين قوات التحالف، ونفس الأمر ينطبق على طائرات “ميراج”  والتي تواصل “تاليس” منذ 2017 ضمان صيانتها. تم إنتاج كل هذه الأجهزة  على بعد 40 كلم من باريس، في مدينة إيلانكور التي تضم 25 ألف نسمة.

تُقيّم هذه العقود بعدة مئات من ملايين اليورو، حيث بلغ إجمالي أرباح شركة “داسو” للطيران في 2021  ما يقارب 700 مليون يورو، أي ضعف ما كان عليه في 2020 حسب تقريرها السنوي، وتحصّل مساهموها على 208 ملايين يورو من حصة الأرباح. غير أن المصنّع لم يضع موظفيه في الحسبان، بل اضطُرّ هؤلاء إلى القيام بإضراب لمدة 3 أشهر تقريباً كي يقرّ الصناعي بزيادة الأجور بحوالي 100 يورو. وقد انتقلت هذه الحركة الاجتماعية غير المسبوقة أيضاً إلى مصانع إنتاج الأسلحة التابعة لـ “تاليس”، و ” إم بي دي إيه”، حيث أصبحت مدينة إيلانكور مركز الغضب، حيث دام الإضراب شهرين ونصف تقريباً، ليكون أطول إضراب في تاريخ “تاليس”.

هكذا يَعد التحالف الذي بدأ يتبلور بين النقابات والمنظمات غير الحكومية بإحداث زعزعة داخل صناعة تحظى حاليّاً بحماية مفرطة من قبل الدولة الفرنسية، كونها هي نفسها مساهمة في العديد من الشركات الرائدة في هذا القطاع، خاصةً وأنه على المستوى الداخلي، بدأ ضغط الرأي العام يقلق مدراء الموارد البشرية. ويبدو أن بعض الشركات التي تعرضت لانتقادات بسبب أسلحتها المستعملة في اليمن تجد صعوبة متنامية في توظيف المتخرجين الشباب.