دراساتصحيفة البعث

سياسة أردوغان المائية.. استخدام التعطيش كسلاح

د. معن منيف سليمان

يواصل رئيس النظام التركي أردوغان افتعال المشكلات مع دول المنطقة، وخاصة الدول العربية، وذلك بغرض الاستيلاء على مقدرات وثروات هذه الدول. فقام ببناء سدود لمنع تدفق المياه إلى نهري دجلة والفرات ما أثّر بشكل كبير على منسوب النهرين، مستخدماً السدود كسلاح للعبث بالأمن المائي للمنطقة لتمرير أهدافه التوسعية، في خرق سافر لكل الاتفاقيات والأعراف الدولية. كما يحاول أردوغان انتهاج سياسة التعطيش، وهذا ما يبدو واضحاً من احتلال مرتزقته وميليشياته لمحطة ضخ مياه الشرب بمنطقة علّوك، التي تزود محافظة الحسكة بالمياه، ما يزيد معاناة الشعب العربي السوري الذي يعيش ويلات الحرب الكونية ووباء كورونا والحصار الاقتصادي، ويجعله يواجه أزمة خطيرة جديدة وهي نقص المياه.

تقوم السياسة المائية الأردوغانية على مبدأ خطير للغاية، مفاده أن لتركيا وحدها حق التصرف بمياه نهري دجلة والفرات، وأن لها وحدها حق التصرف بهما دون أن تأخذ بالحسبان حقوق كلّ من سورية والعراق، على الرغم من اتفاق عام 1987، الذي نظّم حصة كل دولة من الدول الثلاث بكميات مياه النهرين. ولكن تركيا اعتمدت منذ البداية سياسة تقوم على التهرّب من أي اتفاق في مجال المياه، واستغلال عامل الوقت، بغية استكمال مشاريعها المائية الضخمة دون التشاور مع بغداد ودمشق، وعليه أقامت خلال السنوات والعقود الماضية مئات السدود على مجريي النهرين حتى تجعل من المياه سلعة تتحكّم بها، وهي سياسة تعود في الأصل إلى الرئيس التركي الأسبق سليمان ديميريل، الذي لقب بمهندس السدود، وهو الذي قال في أثناء تدشين سد أتاتورك عام 1992: “إن المياه التي تنبع من تركيا هي ملك تركيا وحدها، والنفط هو ملك الدول التي تنبع منها، ونحن لا نقول لهم إننا نريد مشاركتهم في نفطهم، كما أننا لا نريد أن يشاركوننا في مياهنا”!.

وحسب تقرير الموازنة المائية في العراق وتقرير أزمة المياه في العالم، يبلغ عدد السدود التركية على نهري دجلة والفرات نحو تسعة سدود وهي: سد كيبان، وسد قرقايا، وسد أتاتورك، وسد بيرة جيك، وسد قرقامش، وسد بطمان، وسد كيران، وسد كيزي، وسد اليسو، وساهمت تلك السدود في تقليص حصص سورية والعراق المائية.

حرب الماء التي يشنّها النظام التركي مستغلاً مسألة أن تركيا “دولة منبع للفرات ودجلة” لها مآرب خاصة بأردوغان، الذي يُريد التغطية على تراجع شعبيته وشعبية حزب العدالة والتنمية التركي، وعلى أزماته الداخلية. وربما يخطر في بال أردوغان أن ما يبنيه من سدود، خاصة في مناطق وجود قواعد حلف الناتو، قد يعزّز من علاقاته بـ “إسرائيل”، إذ أن خبرة المياه في مشروع المياه المعروف بـ”كاب” هي خبرة إسرائيلية، ومعروف دور كل من المهندسين الإسرائيليين يوشع كالي وشارون لوزوروف في بناء هذه السدود، وشراء الأراضي على ضفتي النهر، وطرح مشروع مناوغات لإيصال مياه الشرب إلى المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، فضلاً عن عامل التمويل.

ومنذ بداية الحرب على سورية شهد نهر الفرات أكبر نسبة انخفاض، وما لذلك من تأثير خطير على الزراعة بالدرجة الأولى التي تبلغ نسبتها 80 بالمئة في مناطق الجزيرة. كما أن عدم ضخ كميات كافية إلى نهر الفرات ينعكس سلباً على عدم توفر التيار الكهربائي لسكان المنطقة ولمحطات الري التي تحتاج إلى كميات جيدة من الكهرباء لتشغيلها، كما أن انخفاض منسوب مياه الفرات قد يخرج بعض محطات الري عن الخدمة، وسط صيف حار، ما يهدّد حياة ملايين الناس بالجوع والعطش. وهذا ما يعدّ جريمة ضد الإنسانية باستخدام النهر كسلاح ضدّ المدنيين العزل.

جرائم أردوغان المائية توثقها الدراسات والتقارير الإعلامية، العربية والغربية منها، وقد تحدّث عن ذلك الكثير من المحلّلين السياسيين، حتى المعارضين من الداخل التركي لسياسة أردوغان، وكتبت عنها الكثير من الصحف، حيث أكد تقرير لموقع “دير شبيغل” الألماني بعنوان “تركيا توقف المياه في سورية” أن أردوغان يزيد معاناة الشعب السوري الذي يعيش ويلات الحرب ووباء كورونا والحصار الاقتصادي، ويجعله يواجه أزمة خطيرة جديدة وهي نقص المياه.

ما تعانيه اليوم سورية يعانيه بشكل واضح العراق، فسد “اليسو” التركي تسبّب في تقليل حجم المياه القادمة إلى العراق من نهر دجلة بنسبة ٦٠ بالمئة. وتشير دراسات أجريت عام ٢٠١٩، إلى أن مياه نهر دجلة ستنخفض من ٢٠ مليار م٣ إلى ٩ مليارات م٣ فقط، وهذا ما يترك أثراً سلبياً على أوضاع الفلاحين والزراعة وزيادة معدلات البطالة.

كلّ ما سلف يهدّد الأهالي بالهجرة والنزوح من موطنهم الأصلي، وخطر السدود التركية لا يهدّد هؤلاء السكان فقط، بل كل من سورية والعراق، إذا ما أُخذ بالحسبان أن هذه السدود أُقيمت في منطقة معروفة بالنشاط الزلزالي، وأي انهيار لهذه السدود، كفيل بجرف قرى ومدن بأكملها في هذه الدول.

إن بناء مئات السدود على الحدود السورية والعراقية من الجهة التركية لم يأخذ بالحسبان المدن والمناطق الأثرية، إذ أن سد اليسو دمّر مدينة حصن كيفا التاريخية، وهجّر سكان أهالي 40 بلدة وقرية في منطقة يعود تاريخها إلى آلاف السنين، وهذه سياسة مدروسة يهدف منها أردوغان محو كل أثر يؤكّد الحقيقة التاريخية للعرب في تركيا.

يضاف إلى ما سبق أن أردوغان يستخدم المياه كسلاح لتمرير أهدافه التوسعية، مثلما يفعل في محافظة الحسكة، حيث تسيطر قواته على محطة ضخ مياه الشرب بمنطقة العلّوك منذ شهر تشرين الأول 2019، التي تزوّد محافظة الحسكة بالمياه. ومنذ مطلع العام أغلقت تلك القوات المياه عدّة مرّات، ونقل تقرير لموقع “دير شبيغل” عن توبياس فون لوسف الخبير بأبحاث صراعات المياه في معهد “كلينغتايل” في لاهاي قوله: “إن تركيا تستغل المياه في محطات الضخ في سورية لتعزيز نفوذها في البلاد”. وانتقد التقرير الأطماع التركية، خاصة وأن تركيا لا تشكو من نقص في المياه، وتساءل: لماذا يتمّ تعطيش قطاعات كبيرة من السوريين الآن وخاصة في فصل الصيف بحرارته المرتفعة؟!.

إن أردوغان يقوم بخرق الاتفاقيات الدولية دون أن يجد من يردعه أممياً، فما يقوم به في سورية يخرق اتفاقية عام 1987، التي تضمنت أن تستفيد سورية بـ 500 متر مكعب من مياه نهر الفرات كل ثانية، لكن المنسوب اليوم انخفض لأقل من 200 متر مكعب بحسب تقارير إعلامية، حتى صنبور المياه في الحسكة تمّ الاستيلاء عليه من خلال ميليشيات أردوغان الإرهابية.

وفضلاً عن ذلك، فإن هذه السدود التي يبنيها أردوغان مخالفة لاتفاقية المياه والبحار لعام ١٩٨٢، واتفاقية المياه والأنهار العابرة للحدود لعام 1997. مع تهرب تركيا من أي اتفاق حقيقي مع سورية والعراق منذ المفاوضات التي بدأت بينهما عام 1962. واللافت حتى الآن أن التحرك الدولي ضدّ إجرام أردوغان يبقى ضعيفاً جداً، وأن الصمت الغربي من علامات الرضا على هذا الإجرام تبدو واضحة ومفضوحة.