دراساتصحيفة البعث

نحو أوروبا جديدة

ترجمة وإعداد: إبراهيم أحمد

عن صحيفة لوموند

لم يكن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى مزيد من التفكك بعد «البريكست» البريطاني، وخروج أحد أعمدة الاتحاد ومؤسسيه، إذ لم يكد يلتقط أنفاسه، حتى داهمته جائحة «كورونا»، وألقت بظلال ثقيلة على دول الاتحاد التي افتقدت التنسيق والتعاون والعمل الجماعي في مواجهة الوباء، ما تسبب بخلافات عميقة حول كيفية مساعدة هذه الدول لبعضها، خصوصاً للدول الأكثر تضرراً، وهما: إيطاليا وإسبانيا، لكن في خضم هذه التداعيات، لم يكن بوسع الاتحاد استيعاب المزيد من الانهيارات الذاهبة باتجاه تفكيك ما تبقى منه، ونجح في المحافظة على الحد الأدنى من التماسك، على الرغم من الجائحة، واشتداد ضغوط قوى اليمين المتطرف، المتحفز للانقضاض على السلطة، واللحاق بركب «البريكست» البريطاني.

يحسب لفرنسا وألمانيا قيادة الدول الأوروبية في عبور هذه المرحلة الكارثية، وإعادة إرساء دعائم الاتحاد على بنى قوية قادرة على الانطلاق به إلى مرحلة ما بعد «كورونا». فالقمة الأوروبية  الأخيرة التي عقدت في بروكسل على مدار خمسة أيام كادت في بعض مراحلها أن تفتك بالاتحاد الأوروبي، وتكتب نهاية مأساوية لرحلة استمرت عشرات العقود، وربما تقود إلى كارثة أسوأ بكثير مما خلفتّه جائحة كورونا، لكن النهاية كانت سعيدة لهذه القمة الماراثونية والتي أسفرت عن نتائج فاقت التوقعات،في نهاية المطاف، وأقّرت، على الرغم من الخلافات والمفاوضات الصعبة، ميزانية خطة إنعاش اقتصادي بقيمة 750 مليار يورو، على شكل منح وقروض لمواجهة الركود الذي نجم عن الجائحة، والأهم أنها أبقت على أوروبا موحدة، وشكّلت لحظة تاريخية فارقة، بحسب ما يقول زعماء في الاتحاد، لكن بالمقابل، كشفت عن عيوب وثغرات خطرة، كان يمكن أن تقود إلى انهيار الاتحاد، حيث ظهرت ثلاث كتل أوروبية، واحدة في الشمال أو ما يُسمى كتلة الدول «المقتصدة»، وتضم: هولندا والسويد والدانمارك والنمسا، وثانية في الجنوب أو الكتلة «المتوسطية» والتي تضم أساساً: إيطاليا وإسبانيا، وهما الأكثر تضرراً، والأكثر حاجة إلى المساعدات، إضافة إلى كتلة الشرق ممثلة في: فرنسا وألمانيا.

الضغوط التي مارستها جبهة الشمال، بقيادة رئيس الوزراء الهولندي مارك روتي، حاولت في بعض مراحل المفاوضات، تخفيض ميزانية الاقتراح الأولى للخطة البالغة 500 مليار يورو، مما اضطر رئيس المجلس الأوروبي إلى اقتراح تخفيضها إلى 450 مليار يورو، ما أثار غضب الرئيس الفرنسيإيمانويل ماكرون الذي خّير الأعضاء بين التوصل إلى اتفاق قوي أو عدم التوصل إلى اتفاق. وفي النهاية، كانت مفاتيح الحل بيد المستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي اللذين مارسا ضغوطاً هائلة أدت إلى الاتفاق، بيد أن ذلك يبقى مرهوناً بالتنفيذ، وتمكين الدول المتضررة من الاستفادة من خطة الإنعاش الاقتصادي، التي يعتقد قادة الاتحاد أنها ستعود بالفائدة ليس فقط على الدول بل على الأفراد والأسر الأوروبية، والأهم الانتقال إلى أوروبا جديدة في مرحلة ما بعد «كورونا».

«90 ساعة» تنقذ الاتحاد الأوروبي

بعد أن ولى زمان التكتلات السياسية والاقتصادية، وانتشرت ظاهرة الحمائية الوطنية، عانى الاتحاد الأوروبي مشاكل بنيوية فشل في معالجة الكثير منها، وهو ما نتج عنه تغيير في الخريطة السياسية لم يخدم تماسك الاتحاد. ولكن تفشي وباء كورونا، وفشل الاتحاد في مواجهته، هو ما هدد وحدته، وما نتج عنه من تهديدات، كل ذلك أرغم الجميع على إعادة حساباتهم تحسباً لما هو آت، والذي لن يجري كما تشتهي سفن المهيمنين على سياسات الاتحاد الاقتصادية وغير الاقتصادية. فبعد تهديدات بالفيتو، وبعد أن علت أصوات من يعتقدون أنهم أقوياء ضمن تركيبة الاتحاد المتصدعة، ومنهم ماكرون، تم الاتفاق بعد تسعين ساعة من المفاوضات، على إنشاء صندوق بقيمة 750 مليار يورو (840 مليار دولار)، لدعم الاقتصادات الأكثر تضرراً. ووصف ماكرون الاتفاق بأنه «تجاوز لمرحلة حرجة»، بينما قالت أنجيلا ميركل، التي تتولى بلادها الرئاسة الدورية للاتحاد: «هذا أفضل رد على أكبر أزمة يواجهها الاتحاد الأوروبي منذ إنشائه». أما رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، فقال: إنها «خطة عظيمة لأوروبا، إنها خطة مارشال حقيقية». وتنص الخطة على حزمة قدرها 750 مليار يورو يمكن للمفوضية الأوروبية اقتراضها من أسواق المال، ويتم توزيعها ضمن شريحتين، الأولى بقيمة 390 مليار يورو، تقدم على شكل مساعدات تتحمل كافة الدول السبع والعشرين توفيرها، والثانية بقيمة 360 مليار تقدم على شكل قروض يتم تسديدها من قبل الدول التي تستفيد منها. وتم الاتفاق على أن تضاف الحزمة إلى ميزانية الاتحاد للأعوام 2021 حتى 2027 والبالغة قيمتها 1074 مليار يورو، وتعرف أيضاً باسم الإطار المالي متعدد الأعوام، بحيث تضاف 154 مليار يورو منها إلى الموازنة سنوياً. وقالت صحيفة «فاينانشال تايمز»: إن الحل الوسط الذي تم التوافق عليه ليس سوى نسخة معدلة مما طلبته رئيس المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لين، من قادة المنطقة في أيار الماضي، حيث تم خفض شريحة المنح الأساسية في جهود الإنعاش إلى 390 مليار يورو، وهو أقل بكثير من 500 مليار يورو التي أوصت بها اللجنة، ودعمتها ألمانيا وفرنسا.

تتولى المفوضية الأوروبية وضع خطة لإصدار السندات تضمن سداد كافة الالتزامات بحلول عام 2058، الأمر الذي يحمل موازنات الدول الأعضاء في المستقبل أعباء إضافية، في حين لا تبدي الدول الأعضاء الغنية رغبة في تسريع عمليات مساهمتها في الصندوق. وتراهن المفوضية على الحصول على قسم من عائدات الرسوم الضريبية البيئية والضرائب الرقمية في تمويل الدين، وخاصة أن دولاً أعضاء تستعد لفرض ضرائب على مخلفات البلاستيك، بينما تطالب دول أخرى المفوضية بفرض ضرائب على الواردات من السلع غير الأساسية، والتي لا تتطابق مع الشروط البيئية المفروضة على الشركات الأوروبية. من هنا فقد يقع عبء تمويل الديون على موازنات الدول الأعضاء خلال السنوات السبع المقبلة.

هذه الخطة التي ولدت بعد مخاض عسير لا تشكل نهاية المطاف في تسوية الخلافات المالية الأوروبية. وكثيراً ما دعا مسؤولون أوروبيون إلى تطوير الاتحاد النقدي الذي أوجد العملة الموحدة «اليورو» إلى اتحاد مالي يتيح تكاملاً أوسع في مجالات أشد حساسية مثل السندات الاتحادية وحقوق السحب، فضلاً عن مواجهة الأزمات المالية التي تتعرض لها الدول الأعضاء ذات الاقتصادات الأضعف.

انتقادات اليمين واليسار

سارع اليمين المتطرف في أوروبا للتنديد باتفاق صندوق التعافي الاقتصادي. وأعلن ماتيو سالفيني، زعيم المعارضة اليمينية المتطرفة في إيطاليا، أن بلاده يجب ألا تتوقع الحصول على أي أموال مجانية نتيجة الاتفاق. وندد سالفيني «بالتنازل غير المشروط لفكرة سيطرة الاتحاد الأوروبي على السياسات الوطنية الإيطالية». ولفت إلى أن إيطاليا سوف تجبر على الالتزام بإصلاحات مؤلمة لنظام الضرائب والتقاعد مقابل الأموال التي تحصل عليها من الاتحاد الأوروبي. كما نددت زعيمة أقصى اليمين الفرنسية مارين لوبين بالاتفاق، وقالت: «وقَّع ماكرون على أسوأ اتفاق لفرنسا في تاريخ الاتحاد الأوروبي بأكمله. وضحَّى بمستقبلنا واستقلالنا من أجل حماية منصبه».

وأفاد استطلاع للرأي أجري في ألمانيا بأن نسبة 40% من الألمان يعتقدون أن خطة الدعم التي أقرتها القمة الأوروبية لن تعزز التماسك بين الدول الأعضاء.

وفي دراسة لمعهد «يوكوف» ارتفعت نسبة المشككين في دعم الاتفاق أواصر الأخوة بين الأوروبيين، وخاصة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً، حيث أفادت نسبة 51 % منهم بأنهم لا يعتقدون أن الحزمة ستعزز تماسك الدول الأوروبية. ووجّه أنصار البيئة انتقادات للخطة التي أغفلت في رأيهم قضايا حماية البيئة، وقالوا: «لم تخرج قمة الاتحاد الأوروبي عن نطاق الوعود الطنانة والكلام المعسول».