مجلة البعث الأسبوعية

في أحوال المنطقة والعالم.. بين “فقه الواقع” وأحكام التغلّب والمجالدة

“البعث الأسبوعية” ــ أحمد حسن

للوهلة الأولى يخال المراقب أن ما يحكم المشهد السياسي، الإقليمي والدولي، وسلوك القوى العظمى وتحديداً باريس – بوكالة أمريكية مقيّدة – حيال التطورات اللبنانية، هو “فقه الواقع” الذي لم يتحرّج “الفقيه” الفرنسي ايمانويل ماكرون من إعلانه على كل المنابر اللبنانية التي اعتلاها بصفته “الأب الحنون”، الذي جاء من “المركز” كي يصوّب أخطاء الأبناء القاصرين في مستعمرة طرفية نائية، لكنّه، وكعادة الآباء، استخدم الحزم في ذلك، ليكشف، على طريقة المسكوت عنه، أن التهديد بإقامة الحدّ على “المارقين” هو أحد أركان إحياء سنن “فقه الواقع” الجديد، بل أهمها، بمعنى أنه “فقه” مسلح بوازع السلطان لا القرآن، أو أي كتاب مقدّس آخر.

 

سرّ الايمان المستجدّ

بيد أن الوقائع المرصودة، وأحوال الامبراطوريات في تقلباتها الداخلية وتحدياتها الخارجية، تكشف أن “الإيمان” المستجدّ بهذا “الفقه” وأحكامه بعد الاعتناق الطويل لـ “فقه التغلّب” بصورته الفجّة، ليس إلا مطلباً أمريكياً عاجلاً يفرضه، من جهة أولى، انشغال واشنطن بالصراع الانتخابي الداخلي، وبالتالي حاجة مراكز القوى الفاعلة فيها لفترة هدوء خارجي، كما تفرضه، من جهة ثانية، حاجة “الإمبراطورية”، لتمرير استحقاق التطبيع بين عرب الخليج و”إسرائيل” – وهو استحقاق أمريكي داخلي أيضاً في بعض أوجهه وانعاكاساته – بهدوء وسلاسة أيضاً.

وبالطبع، وجد “فقهاء” واشنطن البراغماتيين أن من الأفضل لصورة الإمبراطورية وهيبتها اعتناق هذا الفقه سراً، مع تلزيم تطبيق أحكامه لجهة دولية أخرى – مثل فرنسا – تملك علاقات “معقولة” مع أغلب دول وقوى المنطقة الفاعلة، وتركوا لأنفسهم حرية، ومرونة، استخدام “وازع” السلطان وسيف عقوباته الاقتصادية القاطع، وهو ما تجلّى مثلاً في توقيت العقوبات على الوزيرين اللبنانيين السابقين، وبالطبع وجد هذا التلزيم قبولاً سريعاً من ماكرون الذي يريد منه تحقيق إنجازين متلازمين: الأول شخصي بحت كرافعة سياسية في مواجهة مآزقه الداخلية، والثاني فرنسي أوسع بحثاً عن دور مؤثر في الغزوات المتعدّدة الأسماء والصفات، والدائرة هذه الأيام على غاز شرقي المتوسط، وبالتبعية على حصة من “كعكة” سياسة وثروات هذه البقعة الجغرافية المنكوبة.

 

“الفقه المسلّح”

بهذا المعنى، يمكن لنا أن نقول: هذا ليس “فقه الواقع” بأركانه وقواعده المعروفة، بل هو “فقه الواقع المسلّح”. وهذا الفهم يمكننا من قراءة أدق لما يحدث، بدءاً من “الغارة” الفرنسية بطائرات الواقعية السياسية على المنطقة، سواء ما ظهر منها إلى العلن، كما في لبنان والعراق، أو ما بقي مستتراً في ما يتعلق بسواهما، وصولاً إلى عنجهية ماكرون في التعامل مع لبنان، ومعظم قواه السياسية و”الشعبية”، آمراً ناهياً مهدداً متوعداً، كونه ممثّل السيد الأبيض وحامل أختامه – دون أن نغفل أن الأنموذج اللبناني ذاته، وهو نتاج منظومة سياسية واقتصادية واجتماعية تابعة – يتيح للسادة البيض مثل هذه العنجهية، وهي، للأسف، عنجهية معتادة من هؤلاء، وآخر أمثلتها إهانة صحيفة “معاريف” الإسرائيلية لـ “أبوظبي” حين أوردت في إحدى تحليلاتها عن التطبيع مع العرب أن “الإمارات دولة هامشية، والتطبيع معها مجرد عرض موسيقي اشتراه محمد بن زايد، ولا يساوي قشرة الثوم”، وذلك، سواء كان في التطبيع أو العنجهية، كلام آخر، وله مكان آخر لقول الكثير فيه.

لكن، وكما يعرف الجميع، “فقه الواقع” حتى لو كان مسلّحاً ليس فقهاً ثورياً، وأتباعه ليسوا ثواراً على شاكلة تشي غيفارا المرتحل إلى غابات بوليفيا للمساهمة في قيامة عالم أفضل، بل هم من ينشدون الحفاظ على الواقع الحالي وتمرير المرحلة بأقل الأضرار، لذلك لم يأت السيد الفرنسي، المأزوم في بلده، لإنقاذ لبنان وشعبه – كما قال متفاخراً – بل لإنعاش.. مجرد إنعاش.. الأنموذج الطرفي، الرأسمالي تجاوزاً، الذي تمثّله بيروت، عبر شدّ أذن الحلفاء/ الأتباع الصغار هناك، وإعادتهم إلى “الصفوف” المدرسيّة الرأسمالية التي تجاوزوها بفسادهم العلني الفاجر وصراعاتهم الصغيرة على “كعكعة” آخذة بالتضاؤل، نتيجة تضافر عوامل داخلية وخارجية متشابكة بعضها من أمراض الرأسمالية ذاتها، وبعضها من أمراض الأنموذج نفسه الذي يبدو أن دوره الخدمي والمصرفي، وهو سر معجزته السويسرية الشرق أوسطية، قد بدأ بالأفول لمصلحة نماذج أخرى – مثل دبي وحيفا – تريد، ويراد لها، أن تأخذ هذا الدور الطرفي التابع بامتياز.

 

“الفقه” متمدداً

واستطراداً لـ ماكرون، كما أسلفنا، في “غارته” هذه مصلحة فرنسية في ثروة شرق المتوسط الغازية، وهي مصلحة تتطلب محاصرة التغوّل التركي والهجمة الأردوغانية للاستئثار بهذه الثروة، وفي هذا فقط نفهم حراك ماكرون العراقي باسم دعم سيادة بلاد الرافدين، كما سنفهم لاحقاً بعض الصفقات السرية التي أجراها مع قوى إقليمية نافذة في هذا الشأن.

وأيضاً، ومن ضمن السياق ذاته، ولكن في مكان آخر، نفهم كيف أن رياح “فقه الواقع” سرت بصورة ما في الإقليم بأسره، وأنتجت “جرأة” ما تسمى بـ “مسد” في سورية على توقيع “مذكرة تفاهم” في موسكو مع حزب “الإرادة الشعبية”، رغم التناقضات المفترضة بين الطرفين، كما بين رعاتهم الدوليون، وفي هذا كلام آخر أيضاً ليس هذا مكانه.

 

لكنه “فقه” آني..!!

لكن – ودائماً هناك هذه الـ “لكن” – يقول لنا التاريخ أن “فقه الواقع” عند الامبراطوريات هو فقه آني.. فقه استعمالي مؤقت لتمرير استحقاقات معينة، ثم تعود الأمور إلى “نصابها” لصالح “فقه التغلّب” وأحكام المجالدة. وبالتالي، يعرف الجميع أن واشنطن ستعاود سياساتها السابقة بعد نهاية الإجازة الانتخابية، سواء بقي ترامب أم فاز بايدن – وسيعود ماكرون إلى مقعده الثانوي دون أن تفارقه العنجهية – وهي سياسات أصبحت العقوبات الاقتصادية سلاحها الرئيس – بعد أن أُنهكت المنطقة بالحروب والدمار – وفق معادلة “التجويع للتركيع”، وهو سلاح أكثر اجراماً وخطورة من كل الأسلحة الأخرى، لأنه يطال الفئة الأوسع من الناس بهدف إثارة امتعاضهم من حكوماتهم، وهو هدف قابل للتحقق كما تشي المؤشرات الشعبية في الدول التي تتعرض له.

وبالتالي، سنكون لاحقاً – كما نحن الآن – دون تفرقة بين أحد (الصين، روسيا، إيران، سورية، فنزويلا، القوى الوطنية.. إلخ)، في صلب الصراع حول مواجهة نظام العقوبات، وسط استنقاع في المسارات السياسية لا يملك أحد معرفة دقيقة بتوقيت انتهائه، خاصة أن نظام العقوبات الاقتصادية أصبح ملزماً لأي إدارة أمريكية جديدة، والفكاك منه ليس سهلاً، فلماذا نمنح واشنطن هذه التهدئة المطلوبة من جانبها لتمرير استحقاقاتها الداخلية؟! ولماذا لا نشعرها أن لسياساتها المجرمة ثمناً؟! أم أنه قد كُتب علينا، كما في كل مرة سابقة، أن نستيقظ صباح الأربعاء الذي يلي “الثلاثاء الانتخابي الكبير” على حقيقة أن التغيير بين شخص وآخر، وإدارة وأخرى، هو في الوسائل لا في الأهداف..!!

 

“الفقه” معكوساً..!!

والحق، فإن هذا سؤال للقوى الدولية المناهضة لواشنطن أولاً، وجوابه مشترك بصورة كبيرة بين ضرورات “فقه الواقع” الحقيقي وأحكام “فقه التغلب” والمجالدة، فيما جوابنا – نحن، ودول المنطقة وقواها الحية – لن يأتي إلا من “فقه المقاومة” وحده، بشرط اعتماده على الإنسان أولاً، حرية وكرامة ومواطنة، وذلك شرط وجوب ولزوم حتمي، لا خيار بين خيارات عدة على ما يقول علماء الفقه السياسي الصحيح.