نقـوش ..كونشيرتو الخـريف
” البعث الأسبوعية ” محمد كنايسي
بشوق غزير أنتظرك أيها الخريف. ورغم أنك قد تأخرت عن موعد قدومك، فأنا متيقن من أنك قادم.
علي أن أعد ما ينبغي إعداده لحفل استقبالك، ولا أدري هل يكفيك أن أفتح أبواب روحي ونوافذها، وأن أعود طفلا أفيض دهشة وأسئلة، ولا أخاف شيئا، ولا أكره أحدا، وأن أدلل الحزن، وأجعله يلعب كطفلة صغيرة ترقص مع عنقود العنب.. وتغني.
لا أدري لماذا أحبك، ولا لماذا أجد فيك قلبي وأراه..
لا أدري لماذا كلما هبت رياحك، وهطلت أمطارك، وتساقطت أوراق أشجارك، تتغير الكلمات، وتصبح كائنات حية قادرة على البكاء، وتأتيني سيولا لا لأكتبها بل لتجرفني إلى حيث تتوالد الغيوم، وتنزل الملائكة الجريحة بأجنحة موسيقية من السماء..
فيك وحدك لا أعرف هل أضحك أم أبكي حتى وأنا غارق في الدموع.. وفيك وحدك يختفي ذلك الفارق الاصطناعي بين الموت والحياة: “في مثل هذا الخريف تقاطع موكب عرس لنا مع إحدى الجنازات فاحتفل الحي بالميت والميت بالحي”.
بين أوراقك أشعر أني ورقة صفراء، آخر ورقة صفراء سقطت للتو من شجرة اكتمل عريها الحاد وأصبحت غريبة مثلي، أو أنني تعريت كثيرا حتى من دقات قلبي وأصبحت غريبا مثل أغصانها..
يحيرني هذا الانصهار الغريب بين “الإنساني” و”الطبيعي” فيك، فلا فارق بين الأسماء، ولا اختلاف بين المعاني، ولا لون للألوان إلا لونك، ولا صوت للأصوات إلا صوتك..
وحدك شجرة المطر والشعر والحب والحزن والشجن، الشجرة الجرداء الأكثر نحولا بين الأشجار، الشجرة البكماء المسكونة بذكرى العصافير النائمة في عبير الزقزقات..
من تكون حتى تأتي بكل وسامة الحب وأناقته وجنونه، وكيف تستطيع أجراس أمطارك أن تبعث الحب، وأن توقظ العاشقين من غيبوبة الضجر: “إذا أتى أيلول يا حبيبتي / أسأل عن عينيك كل غيمة / كأن حبي لك مربوط بتوقيت المطر”..
ثمة دموع كثيرة أكبر من غابة لا أعرف من أين تأتي الآن. هل هي خطواتك.. هل هي نظراتك أم هي هذا الشئ الذي لا أجد له اسما ولكنه يشهق في قلبي بلا توقف..
وها قد أفرغت ذاتي من كل شئ.. ها قد عدت جديدا كفجر جديد، وأعددت لك ما يليق بجمالك الغامض يا صاحب الشحوب النبيل، وشربت نخبك: أنا والخريف / وأنت / وليل المطر /وكأسا نبيذ / ورمانتان على الطاوله / وفي المزهرية بعض ورود / ولكنها ذابله /لوجهك أنشودة /من شحوب القمر /لصمتك دمع الرخام الحنون / وبين يديك تنام بقايا الجنون / لنشرب إذا نخب هذا الخريف الذي تعشقين / ونرقص بلا تعب / رغم أنف السنين /فلا لذة في خريف الحياة / كلذة هذا العناق الحزين..