مجلة البعث الأسبوعية

الطب الشرعي يحتضر.. 55 طبيباً يغطون المحافظات كافة والعزوف سيد الموقف!!

“البعث الأسبوعية” ــ ميس خليل

رغم حصوله على شهادة الاختصاص في دراسة الطب الشرعي الذي لطالما حلم به كونه المفتاح الرئيسي لحل لغز الجرائم التي يعشق الكشف عنها وتقديم المجرمين إلى العدالة، إلا أن الطبيب علي غير متفائل بما قد ينتظره في حياته العملية، خاصة بعد علمه أنه سيتقاضى راتباً كأي موظف حكومي، ولن يحصل على مكافآت وتعويضات كتلك التي يحصل عليها أطباء التخدير والطب النفسي، كما أنه سيكون معرضاً بشكل دائم للخطر الأمني والصحي والجسدي.

 

عودة تفعيل المرسوم 14

واقع حال الطبيب علي يؤكده الدكتور ناصر الشاهر، عضو مجلس إدارة الهيئة العامة للطب الشرعي وعضو المجلس العلمي للطب الشرعي، في حديث مع “البعث الأسبوعية”، فالأطباء الشرعيون من -وجهة نظره – مظلومون من ناحية المكافآت، ولا يوجد أطباء مقيمون أو حتى إقبال على الاختصاص، إضافة إلى مطالبة الأطباء الشرعيين منذ أكثر من 15 عاماً بتوحيد الجهة التي يتبعون لها، فالطب الشرعي موجود في عدة وزارات (الدفاع – الصحة – التعليم العالي – والداخلية). وبالفعل – وكما يشير الشاهر – صدر في عام 2014 المرسوم 14 بإحداث الهيئة العامة للطب الشرعي التي كانت مطلباً لجميع الأطباء الشرعيين، وتم إخضاعها حينها لرئاسة مجلس الوزراء بعد أن كانت تبعيتها لوزارة الصحة التي لم تقدم شيئاً للطب الشرعي، لتكون “المفاجأة” أن يتم إبطال مفعول المرسوم بعد ذلك بعدة سنوات، وعودة تبعية الطب الشرعي لوزارة الصحة، الأمر الذي يعيد جميع الأطباء الشرعيين الآن للمناشدة مجدداً بعودة تبعية الطب الشرعي لرئاسة مجلس الوزراء، كما كانت عليه في السابق.

 

خلال الحرب   

خلال فترة الحرب على سورية، واجه الأطباء الشرعيون العديد من الصعوبات وتضاعف عملهم بشكل كبير جداً من خلال فحصهم لآلاف الضحايا والجثث، وكان لأطباء حلب الشرعيين معاناتهم الكبيرة بعد أن تم تدمير المقر الرئيسي للطبابة الشرعية في حلب. ووفقاً للدكتور هاشم شلاش، رئيس الطب الشرعي في المحافظة، فقد اضطر الأطباء بعد تخريب المقر الخاص بهم للانتقال إلى مشفى حلب الجامعي ليصبح العمل ضمن باحة إسعاف المشفى.

ويقول شلاش: بعد جهد وعناء كبيرين تم تزويدنا بمقر للعمل، لكنه لا يصلح لأن يكون مكاناً للطب الشرعي لعدم توفر الأماكن المخصصة للتشريح والفحص، فالأطباء الشرعيون في حلب قاموا بأعمال شاقة رغم قلة عددهم، وهناك من غادر، ومن توفي، وبقي فقط 3 أو 4 أطباء يغطون العمل في المحافظة، مشيراً إلى أنه تم الكشف على جثة 15 ألف شهيد خلال سنوات الحرب، وأكثر من 40 ألف جريح. وبعد أن تم تحرير حلب تم الانتقال إلى مكان ليس أحسن حالاً، فهو عبارة عن ثلاث غرف صغيرة فقط في مشفى الرازي ولايفي بالغرض، لافتاً إلى أنه وبعد تحرير المدينة بالكامل وريفها من الممكن أن يتم اكتشاف مقابر جماعية وجثامين، وهذا بحاجة إلى جهد كبير ومضاعف للكشف عليه، والى مكان واسع لدراسة الرفات غير المعروف عددها بالضبط لحد الآن، والتي ربما تكون بالآلاف، مؤكداً أن الاستعراف ذو أهمية كبيرة وبالغة، ولذلك تصبح الحاجة ماسة لترميم المقر القديم في منطقة جب القبة، وإحداث قسم للتصوير الشعاعي ضمن المقر، وتعزيزه بتجهيزات مخبرية وخاصة مخبر الـ DNA على اعتبار أن طبابة مدينة حلب تغطي بعملها المنطقة الشمالية والشرقية من سورية، وليكون مستقبلاً مكاناً مركزياً كما هو الحال في مدينة دمشق، منوهاً إلى أن طبابة حلب الشرعية تعد هي الطبابة الوحيدة التي تعمل على مدار الـ 24 ساعة، ولايمكن إغلاقها على مدار الساعة.

 

نقص الكوادر

تضاءل عدد الأطباء الشرعيين في محافظة حلب بشكل كبير جداً، والحاجة ماسة – كما يوضح شلاش – لعدد من الأطباء المقيمين، على اعتبار أن العدد الموجود قليل مع التزايد في أطباء الأسنان الشرعيين المقيمين، وسبب الحاجة أن معظم الأطباء في سورية قد قاربوا على التقاعد ولايوجد رديف للطب الشرعي بشكل عام في سورية، وبالتالي هناك مطالب عدة يفرضها واقع الحال الصعب الذي وصل له الطب الشرعي في حلب بشكل خاص وفي سورية عموماً. ويؤكد شلاش على ضرورة تفعيل المرسوم الرئاسي رقم 14 بشكل كامل دون حذف أي شي منه، بالإضافة إلى الاستمرار بإرسال الأطباء بدورات خارج القطر وخاصة دورات الاستعراف.

 

على وشك الانقراض

الدكتور زاهر حجو، مدير عام الهيئة العامة للطب الشرعي، تحدث لـ “البعث الأسبوعية” عن احتضار هذا الاختصاص بالغ الأهمية، فالعدد الموجود حالياً فقط 55 طبيباً شرعياً معظمهم ممن تجاوز الخمسين من عمره، في حين أن سورية تحتاج إلى 400 طبيب على الأقل، فلا دماء جديدة ترغب اليوم في خوض غمار هذا التخصص الذي لا يتمتع بدعم حكومي ولا بمكانة اجتماعية مرموقة كباقي التخصصات نتيجة عدم وجود المكافآت، فالطبيب الشرعي لا يعمل اليوم إلا في إطار الوظيفة الحكومية ليتقاضى بذلك راتباً لا يتجاوز في أحسن الأحوال الـ 50 ألف ليرة سورية، شأنه في ذلك شأن أي موظف حكومي دون أي خصوصية، وهو ما يراه حجو أمراً غير مقبول، فليس من المعقول لمن درس أكثر من عشر سنوات في واحدة من أهم الكليات العلمية أن يجد نفسه، في نهاية المطاف، مجرد موظف دون أي امتيازات، كما أن تعرض الطبيب الشرعي لمخاطر جسدية ونفسية وأمنية من الأسباب الإضافية لعدم المغامرة بخوض هذا الاختصاص، فمعظم الأطباء الشرعيين تم تهديدهم خلال فترة الحرب بمحاولة قتلهم من قبل الإرهابيين، بالإضافة إلى تعرض معظمهم لأمراض متعددة جسدية ونفسية نتيجة ما عانوه خلال تلك الفترة من خلال فحصهم لمئات بل الآلاف من الجثث.

حجو سلط الضوء على أن هناك الكثير من الأشخاص لديهم لغط بمفهوم الطب الشرعي ونظرة سلبية تجاهه “.. وهو ما يجعلنا نتعب في عملنا”، فالطب الشرعي يختص بالموت الأحمر، وليس بالموت الأبيض “الوفاة الطبيعية”، والعمل بالمرضي والجنائي، موضحاً وجود مراكز طب شرعي في كافة المحافظات، ويقسم عملها إلى قسمين: قسم يختص بفحص الوفيات ويكون في المشافي من خلال المشرحة، والثاني قسم الأحياء منفصل عن المشرحة، ويتم فيه فحص الحالات التي تورد من القضاء والشرطة، وتقديم تقرير عنها، إلا أنه في بعض مراكز المحافظات ليس هناك بناء خاص بالطب الشرعي، والأطباء الشرعيون يعملون ضمن المستوصف الصحي، ويتم تدارك نقص الأطباء الشرعيين بتكليف بعض الأطباء من اختصاصات أخرى، أو أطباء عامين للقيام بأعمال الطب الشرعي وتدريبهم وتجهيزهم للعمل، ولكن تبقى مسألة غياب كفاءة الطبيب الشرعي تفرض نفسها كتحد لابد من تجاوزه.

 

جانب مشرق

أما الجانب المشرق في عمل الطب الشرعي – كما يصف حجو – فهو طب الأسنان الشرعي، خاصة أنه له دوراً هاماً في موضوع الاستعراف، إذ يساعد طب الأسنان الشرعي بالكشف عن هوية المفقودين، بالإضافة إلى أنه يتم العمل حالياً على إعداد وتدريب الأطباء على علم الانتربولوجي وهو علم الإنسان والذي يمكن من خلاله تحديد طول الضحية وزمن الوفاة والجنس، إضافة إلى الأمراض التي كانت على الهيكل العظمي فهي تترك آثاراً عليه، مشيراً إلى ضرورة تطوير الكفاءات بهذا العلم لما له من أهمية في المرحلة المقبلة، كما يتم العمل على ملف متطور جداً هو “الطب الشرعي الوقائي” الذي يعمل على منع وقوع الجريمة من خلال فحص الحادث أو الجريمة والتنبيه على المخاطر التي قد تحدث، وهو يختص بالحوادث التي تتكرر بمنطقة معينة أو بالتوعية ذاتها فيتم تنبيه الأهالي والجهات المعنية.

 

مهام متعددة

مهام الطب الشرعي تشكل طيفاً واسعاً من الأعمال، فهناك الكثير من الناس الذين يعتقدون أن الطبيب الشرعي هو طبيب الأموات، وهذا الكلام غير دقيق أبداً – كما يصفه حجو – على اعتبار أن نسبة التعامل مع الوفيات قبل الحرب، وبشكل عام، وحسب الإحصائيات العالمية (الأحياء 93 والوفيات 7%)، وخلال فترة الحرب ونتيجة ظروفها ارتفعت نسبة الوفيات إلى 23%، ولكن بقي العدد 77% للتعامل مع الأحياء.

والأعمال التي يشملها الطب الشرعي تتمثل بفحص كافة الحالات من الأحياء وفحص الإصابات والجروح بمجملها، من حوادث السير والمشاجرات وغيرها، إضافة إلى فحص المرضى النفسيين، سواء كان متهماً بتقدير مدى مسؤوليته الجنائية، أو مجنياً عليه لتقدير عمره وحالته النفسية، وحسب تقرير الطبيب تختلف العقوبة في حال لديه مرض نفسي.

يذكر في هذا السياق أنه، ومع تفشي وباء كورونا، كثرت الأحاديث عن ضرورة حرق جثامين المرضى، وهنا يؤكد حجو أن هذا الموضوع مرفوض جملاً وتفصيلاً.

 

بالأرقام

في حديث الأرقام، يشير مدير عام هيئة الطب الشرعي إلى أنه تم تسجيل 116 حالة انتحار منذ بداية العام، وتصدرت محافظة حلب المشهد في عدد حالات الانتحار بـ 23 حالة، تلتها محافظتا ريف دمشق واللاذقية، كل منهما 18 حالة، ثم دمشق وحمص 14، وحماة 10، والسويداء 9، وطرطوس 7، ودرعا حالتين، وأخيراً القنيطرة حالة انتحار واحدة.

وبين حجو أن المنتحرين من الذكور أكثر من الإناث، حيث بلغ عددهم 86 منتحراً، في حين بلغ عدد الإناث 30 منتحرة، وكشف عن انتحار 18 قاصراً، منهم 11 من الذكور، و7 من الإناث.

أما عن الطرق التي استخدمها المنتحرون، فإن حالات الانتحار شنقاً جاءت في المرتبة الأولى بعدد حالات بلغت 47 حالة، ثم الانتحار عبر الطلق الناري 27 حالة، و18 حالة من السقوط من شاهق، مؤكداً أن بقية الحالات تنوعت فيها أساليب الانتحار مثل التسمم وغيرها.