مجلة البعث الأسبوعية

حريق الروح في نسغ الأشجار.. الأميرة مونونوكي وروح أيل الغابات

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

في كل الأساطير والحكايات الشعبية التي ننتمي إليها وتنتمي إليها ذائقتنا البصرية والفكرية في الخيال، هناك ارتباط وثيق مقدس ونبيل مع الطبيعة، مع الأشجار والصخور وينابيع المياه والأنهار مع أزهار شافية بعينها.. كيف يتعاطى أدبنا الطفلي في سورية مع الطبيعة ورمزيتها، مع جعل أطفالنا يعشقون هذه الأرض ترابها وهواءها وشجرها وماءها.. كيف نجعل له في الحكايات رمزية إنبات تموز للزرع حكاية مفهومة بعيدة عن مرامي الفهم العال والتعقيد التحليلي لتشعبات الأساطير.

الأسطورة ولدت نقية بسيطة كوجه الطفل بلا رتوش، ولا إضافات، يستطيع الطفل بذائقته الخام البكر أن يفهمها ويتقبلها، ووظيفة الأديب والفنان هاهنا فقط نقلها من رفوف الأدب المقدم للكبار إلى رفوف أدب الصغار بالكلمات والعبارات البسيطة والواضحة.

 

حريق الشجرة

في المعضلات الكبرى، يموج المجتمع في دوامة من الأقاويل والكلمات التي تطيش بخطاها عن درب واحد بعينه، أكان هذا الدرب منطقياً، أم مشبعاً بخيالات الراوي الذي ينقله للآخرين بطريقته. وأكثر أبناء المجتمع عرضة للتلقي السلبي للمفاهيم، كون الأطفال يشربون الكلمات مهما كانت كبيرة المعنى، ويتلقفونها، ويسألون أنفسهم عن معانيها، ويبحثون عن أجوبة مقنعة يسهل عليهم فهمها.

من الذي تسبب في حريق الغابة؟ لماذا اشتعلت النيران في الأشجار؟ ولماذا تسمى هذه الحالة كارثة؟

ما الكارثة؟.. أسئلة تناقلها أطفال كثر في وسط أتون حرائق الغابات التي نشبت في الفترة الأخيرة في بلدنا الحبيب، ولم يجدوا لها الأجوبة الشافية.

للمقارنة، هناك مفاهيم أكبر وقضايا كانت ملحة للشرح: الحرب والإرهاب والرعب والسلاح والتفجير والقذيفة.. كلها دارت في مخيلة أطفالنا دون أن تجد لها في حكايتهم وقصصهم وكتبهم أي تحليل! فما الذي قدمه أدب الطفل للقضايا الكبرى والعناوين العريضة من حلول أدبية وفنية لشرح تلكم الكلمات للأطفال بطريقة واعية وهادفة، لتصنع طفلاً قادراً من مراحله الأولى على فهم متطلبات كونه أحد أهم دعائم بناء مستقبل وطنه، فعلينا أن ننتبه بحذر وذكاء ودقة لثقافته وأدبه وفنه.

طفلتي، ذات السنوات الـ 6، جاءتني تسأل يوماً ما معنى كلمة “الحمد” يا أبي؟ فسألتها عن سبب السؤال، فأجابتني بأن المعلمة طلبت منهم أن يصنعوا بطاقة يكتبون فيها كلمة شكر وحمد لمكرمة وقيمة عظيمة في حياتهم يشكرون الله عليها، فرحت أقارب الفكرة لذهنية طفلتي بطريقة تحبيبية وتبسيطية لمعنى الكلمة. في آخر النهار، جاءتني طفلتي وهي تحمل بطاقة صغيرة مزينة برسوم على الأطراف، وفي وسطها كتبت: “الحمد لله أني من سورية”.. لأطفالنا قدرة عالية على الدلالة على النهج القويم السليم في التعاطي معهم، ومع مفردات تثقيفهم التي نريد، وعلينا فقط أن نخلص ونتقن العمل.

 

الأميرة ربيبة الذئاب

حكاية من بحر اليابان: هياو ميازاكي، الذي عاش طفولته ناقماً على الحرب، وضع ثقل همه ونقاوة أفكاره في تبسيط مفهوم كره الحرب وإحلال السلام والنبل لدى الأطفال عبر أفلامه، وعاش السنوات الطوال وهو يربي جيلاً من المشتغلين في فن الرسوم المتحركة لتحقيق تلكم الأفكار والرؤى. ورغم أهمية ما قدمه ميازاكي طوال تلك السنوات، إلا أن شهرته الحقيقية كانت مع فيلمه الملحمي الجميل “الأميرة مونونوكي” الذي قدمه عام 1997، ويحكي فيه عن العلاقة بين الطبيعة والإنسان، وحاز عنه آنذاك على جائزة أفضل فيلم متحرك طويل في حفل توزيع جوائز الأوسكار اليابانية، والذي حقق نجاحاً مدوياً في اليابان إلى درجة أنه صار أكثر الأفلام تحقيقاً للإيرادات في تاريخ شباك التذاكر الياباني. الفيلم – للمقاربة – يحكي عن حريق للغابات وجشع فئة من الناس تحاول السيطرة على موارد الطبيعة وصناعة الأسلحة الفتاكة والبارود للسيطرة على باقي المناطق، وتكون وجهاً لوجه مع أرواح الغابة الحامية لها وأبطال الأساطير المحلية، من أيائل وذئاب وأرواح سحرية؛ فمع هذه الثورة الصناعية أصبح العُمّال بحاجة لكميات كبيرة من الخشب، ولذلك قامت السيدة أيبوشي بقطع أشجار الغابة المقدسة لكي توفر الوقود لمصانعها، وهذا الشيء أغضب وحوش الغابة وأرواحها الحامية، وعلى رأسها ذئاب الجبل.

عبقرية الطرح الخاصة بالفنان ميازاكي تتجلى هنا، فهو لا يعبر عن موقفه بالعبارات الرنانة الكبيرة والصعبة الفهم، من مثل الثورة الصناعية وزحف الصناعات على حساب الغابات، بل يترك الحكاية ببساطتها تعبر للطفل والمتلقي عن ذاتها وعن مراميها لنحصّل في النهاية أهدافها التي أرادت قولها لنا بكل جلاء: صراع نبيل من نوع خاص بين الخير والشر، لتتجلى انتصارات الروح المضحية في سبيل الحب والطبيعة والخير في النهاية.

 

أيل الغابات وروح الخير فينا؟  

أصبح من الأهمية بمكان في هذه المرحلة رفع الصوت عالياً لإعطاء الفرصة لشباب يتقنون فن صناعة الأفلام، كتابة ورسماً وإخراجاً، ملتصقين بالطفولة أكثر من أي مدّع للثقافة، منظر لا يتقن رسم تفاحة، شباب موهوبين في كتابة القصص ورسمها، في صياغة الأسطورة السورية ونسيجها بما يليق بذائقة المتلقي السوري الصغير.. آن الأوان لإجبار المسؤول عن المنابر الثقافية على الاستماع جدياً وبشكل جيد لأفكار فريقه الشاب وتقديم الموهوبين منهم لاستلام زمام المبادرة.

حكاية عن طفل صغير تقدم لإعطاء حياته مقابل إنقاذ حياة صديقته الطفلة التي تحتاج لنقل دم. تقدم الطفل بعد تردد، وقد فهم أن معنى نقل الدم هو إعطاء الروح كاملة.. لم يشعر بالخوف، كان يتنهد فقط بضع تنهيدات بريئة وهو يظن أن عملية نقل الدم التي استمرت لدقائق هي عملية موته المحتوم؛ وما إن انتهت الممرضة من نقل الدم وطلبت منه أن يقوم كالأبطال ليذهب إلى حضن والدته، حتى سألها مستغرباً بكل ما في الطفولة من براءة: ولكنني لا زلت حياً!!.. فهم الجميع حينها كل الحكاية!

تشبهها في روح العطاء والتضحية ما نقلته لي إحدى الصديقات عن طفل صغير يعيش في القرى التي تعرضت الغابات المجاورة لها لإحدى الحرائق الكبيرة: لقد استيقظت في اليوم التالي لنشوب الحريق وحديث الناس عن عدم السيطرة عليه، لأجد طفلي يملأ “مطرته” البلاستيكية بالماء، وكل ما تقع عليه يداه الصغيرتان من أوانٍ بلاستيكية بالماء، وقد قال بكل عزم وتصميم: لقد أخبرت رفاقي في الحي جميعاً أن نملأ كل قناني الماء ونذهب لمساعدة رجال الإطفاء في إطفاء الحريق.

نحتاج في الحياة قيماً عالية لثقافة الطفولة تشبه إلى حد كبير جسارة هذا الطفل وبراءته، لنزرعها في وجدانهم عبر القصص والرسوم والأفلام والمسرحيات، علنا نوقف حريق الشجر والبشر الذي يريده لمستقبل أبنائنا أعداء هذا الوطن.