ثقافةصحيفة البعث

تاريخ المرأة بين الأساطير والسجلات المكتوبة في المشرق العربي القديم

يتصفُ المشرق العربي القديم بأنه المهد الأول للحضارة الإنسانية، ففيها عرف الإنسان الأول الزراعة والاستقرار وتربية الحيوانات، وبناء البيوت والمعابد والقصور والقرى والإمبراطوريات. هذه الإنجازات المهمّة والحاسمة في تاريخ البشرية لم تكن من عمل الرجل وحده بل ساهمت المرأة في تحقيق ذلك بوضوح، فالمكتشفات الأثرية تظهر أن المرأة أدت دوراً مهماً في حياة المجتمعات الأولى التي نشأت في عصور ما قبل الكتابة، فقد كانت عماد الأسرة تربي الأطفال وترعاهم وتدبر أمور المنزل، وتقف إلى جانب الرجل في مختلف نشاطاته الحياتية بقدر ما تسمح به ظروفها وإمكاناتها الجسدية. وتظهر أهميتها بشكل بارز في المعتقدات الدينية التي آمن بها الإنسان منذ أقدم العصور، إذ ظهرت الآلهة المؤنثة قبل الآلهة المذكرة، الأمر الذي يؤكد الدور الأساسي للمرأة في حياة الإنسان، وسُمّي الشكل الأول من التجمعات البشرية “المجتمع الأمومي” الذي تسيطر فيه الأم على كل شيء والأولاد ينسبون إليها، ويمكن أن تتزوج بأكثر من رجل واحد، وعبّر الإنسان عن أهمية دور المرأة والأم بشكل عام في صنع التماثيل لها وسُمّيت تلك التماثيل “الإلهة الأم”.

وحظيت المرأة في حضارات المشرق العربي القديم بمكانة راقية لا تقلّ منزلة عن مكانة الرجل، فقد تمتعت بحق الزواج والطلاق والبيع والشراء والتوريث ومزاولة النشاطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وحفظت لها القوانين التي وضعت كقانون حمورابي حقوقها ومنزلتها داخل الأسرة والمجتمع دون أي تمييز بينها وبين الرجل. هذا ما يوضحه الدكتور عيد مرعي في كتابه الذي حمل عنوان “تاريخ المرأة في المشرق العربي القديم” الصادر عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب.

يرصد الكتاب تاريخ أهم النساء المعروفات في المشرق العربي القديم من خلال الوثائق والنصوص المكتوبة أو الآثار المنحوتة، بدءاً من الألف الثالث قبل الميلاد حتى العصر الروماني- البيزنطي، ويستعرض الكاتب تاريخ المرأة ودورها في الحياة في مناطق المشرق العربي القديم الرئيسية الثلاث: سورية القديمة، بلاد الرافدين، ومصر القديمة.

سورية القديمة

يعتقد بعض الباحثين أنه كان للمرأة دور أساسي في معرفة الزراعة، فالرجل كان يقضي معظم أيام السنة في البحث عن الطرائد واقتناصها، بينما تبقى المرأة إلى جانب الأولاد لترعاهم ولتجمع بعض ثمار النباتات والأشجار الطبيعية، وربما قادتها الملاحظة والمراقبة لما ينبت في البيئة إلى اكتشاف سرّ نمو النباتات الطبيعية، كيف تنبت وتنمو وتنضج ومن ثم معرفة الزراعة.

قدّم د. مرعي عرضاً حول دور المرأة عند العديد من الحضارات التي قامت، فتحدث عن دور عدد من النساء اللواتي وردت أسماؤهن في سجلات إيبلا، ماري، يمحاض، مملكة قطنة، أوغاريت، فينيقية، وعند الآراميين. وفي العصر الروماني ذكر مرعي جوليا دومنا المرأة التي أدارت شؤون الإمبراطورية الرومانية، وكانت تنتمي لأسرة عربية من حمص، ولم يغب عن الكاتب زنوبيا التي حكمت عروس الصحراء تدمر، هذه الملكة التي تصفها بعض كتب التاريخ بأنها كانت على قدر كبير من الجمال، وكانت تتمتع بثقافة عالية، فقد أجادت إضافة للهجة الآرامية التدمرية اللغة العربية والإغريقية واللاتينية والمصرية القديمة.

بلاد الرافدين

عرفت بلاد الرافدين عبادة الآلهة الأم منذ عصور ما قبل التاريخ، إذ يعتقد بعض الباحثين أن بعض الآلهات السومريات المعروفات من الأساطير المكتشفة هنّ مظاهر لاحقة للإلهة الأم الأقدم، وأشهرهن نأمو ونينسون والدة البطل الأسطوري جلجامش في الميثولوجيا السومرية. وعلى صعيد السياسة والحكم ذكر الكتاب العديد من النساء اللواتي برزن على مسرح الأحداث السياسية في بلاد الرافدين خلال فترات زمنية مختلفة، وأشهرهن سميراميس التي طافت شهرتها الآفاق واختلطت قصتها الحقيقية مع خيوط الأساطير الكثيرة التي حاكتها حولها الشعوب المختلفة كالإغريق والرومان والفرس والأرمن وغيرهم.

مصر القديمة

تحتل الآلهة المؤنثة مكانة مرموقة في مجمع الآلهة المصرية، وتأتي في مقدمتها الآلهة إيزيس إحدى أهم آلهات الخصوبة والحب والعطاء، وهناك ميريت إلهة الغناء والرقص والمرح، وسيخميت إلهة القتال والحرب والخصوبة والشفاء. أما على الصعيد الدنيوي فتقدّم الوثائق والآثار معلومات كثيرة عن تاريخ المرأة المصرية القديمة، وعن مشاركتها الرجل في تحقيق الكثير من الإنجازات الحضارية. أولى نساء مصر القديمة المعروفات هي الملكة ميريت نيت التي تُنسب إلى الأسرة الأولى وحكمت نحو عشر سنوات، ويمكن اعتبارها أول امرأة تحكم في تاريخ البشرية، وحظيت المرأة المصرية بلقب أقدم طبيبة معروفة في التاريخ ألا وهي المدعوة ميريت- بتاح، ومن أشهر نساء مصر في العصور القديمة كانت الملكة “حتشبسوت” التي تعدّ أول امرأة عظيمة في التاريخ، وهناك “نفرتيتي” التي وقفت إلى جانب زوجها الفرعون أمنحوتب الرابع “أخناتون” في جهوده لنشر الديانة الجديدة ومقاومة نفوذ كهنة الآلهة الأخرى وكرست معظم وقتها لخدمة الإله الجديد، وبقيت وفية لمبادئها ولإيمانها الجديد حتى بعد وفاة زوجها وملاحقة أتباع ديانته. أما كليوباترة “السابعة” فقد كانت أشهر ملكات مصر على الإطلاق لأنها حافظت على العرش البطلمي في مصر بقوة وإرادة، على الرغم مما كانت الدولة البطلمية قد وصلته من ضعف في أواخر أيامها وظهور قوة عظمى في العالم القديم هي الدولة الرومانية، إذ حاولت كليوباترة أن تبعث الحياة في مملكتها وأن تسيطر على روما، وذلك عن طريق غزو قلوب وعقول أشهر القادة الرومان في زمنها بجمالها وذكائها وفتنتها واستخدامهم أدوات لتحقيق طموحاتها السياسية.

عُلا أحمد