الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الإبداع فقط..!

حسن حميد

لطالما تساءل أهل النقد والإبداع في آن واحد، ما الذي جعل الأدباء الجدد الطالعين يتوازون في القيمة والمكانة والحضور مع الأدباء الآباء الذين كانوا أهل ريادة وأصالة وحفر معرفي في جلّ الأجناس الأدبية؟! وكيف التحق هؤلاء الأدباء الجدد بالقوس الجيلية ليكونوا علامات ضوء ومجد لمن يلحقون بهم؟! هل السبب يعود إلى حاجة هذه القوس الجيلية إلى مبدعين كي تبدو وتتجلى أكثر، أم أن السبب يعود إلى ديموقراطية الزمن الذي لا يقف حائلاً بين السابق واللاحق إن كان الإبداع القاسم المشترك لهما؟! أم أن السبب يعود لأمر آخر؟!

الحق أن هذا السؤال المركب وجيه، ومهم جداً، وهو يؤكد أن الإبداع غاية لا خواتيم لها؛ غاية ذروات كثيرة لا ينتظمها مكان أو زمان، وإلا كيف يلحق كاتب إيطالي مثل دينو بوتزاتي بعمالقة الأدب الطلياني دانتي، وبترارك، وبوكاشيو، ويتوازى اسمه مع أسمائهم من دون أن يحترق أو يلتهب أو ينهزم، وكيف لكاتب طالع في أوائل الخمسينيات، في مصر، مثل يوسف إدريس يتوازى اسمه مع أسماء عمالقة الأدب المصري أمثال: د. طه حسين، والعقاد، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور، وهو في كتابه القصصي الأول أو الثاني، فيقدّم له د. طه حسين ممتدحاً مع أن كتابة يوسف إدريس لا تشبه كتابة د. طه حسين ولا نجيب محفوظ ولا محمود تيمور، وهي محتشدة باللهجة العامية، ود. طه حسين رأس من الرؤوس الكبيرة التي لا تطرب إلا لموسيقى اللغة العربية، ولا تميل إعجاباً إلا لجزالتها وامتلائها بالمعاني، وما الذي جعل كاتباً روسياً مثل إيفان بونين يدخل مدونة عمالقة الأدب الروسي المحتشدة بأعمال بوشكين، وغوغول، ودوستويفسكي، وتشيخوف، وتولستوي، وتورغينيف، فيعقد النقاد المقارنات الطوال بين نصوصه ونصوصهم، بل كيف تُدرَّس النصوص الإبداعية في المناهج الدراسية، وبين نص وآخر عشرات السنوات، ولكل نص منها مكانته وجماليته وعلاماته الدالة على نيافته وطاقاته البهّارة؟!            إن الإجابة الوافية لهذه الأسئلة هي إجابة واحدة، قالها أهل المعرفة والعلم منذ أزمان بعيدة، وهي أن سبب اجتماع هؤلاء السابقين واللاحقين في مدونة واحدة، وعلم واحد، هو الإبداع، وليس من شيء آخر سوى الإبداع، فالإبداع هو الذي جعل أسماء اللاحقين تتوازى مع أسماء السابقين، والإبداع هو الذي حفظ لهم هذه المكانة لتجاور المكانة النورانية التي حازها السابقون بقوة الإبداع! أقول هذا لأن أسماء لاحقة عرفت شهرة وحضوراً كبيرين في أزمنة أراد أصحاب النفوذ فيها أن تكون كذلك، أي أن تكون مشهورة وذات صيت، وهي للأسف، لا تمتلك روح الإبداع الأصيل، ولا تعرف جمالياته، ومع ذلك أراد أصحاب النفوذ لها أن تكون حاضرة ومشهورة وفي أمكنة ومواضع كثيرة، لكنها لم تعرف الديمومة، فتساقطت مثل أوراق الشجر في الخريف، وخريفها هنا هو زوال أهل النفوذ الذين جعلوا لها أرجلاً من قصب، فأهملت، وازوَّر الناس عنها، وحيدتها الفطرة البكر، وزلّها الحسُّ السليم، وهذا سنجده في سائر الفنون الإنسانية، وفي سائر أجناس الأدب.

الإبداع هو الحجر الكريم الذي يعطي الكتابات قيمتها، وهو الذي يحفظها من أي غمط أو تجاهل أو تحييد، وقد يعرف الإبداع وجوهاً من الظلم بسبب ظرف ما، أو قوة غاشمة، أو أنفاس حامضية، ولكن الزمن، وبسبب ديموقراطيته، يعطي الكتابات الإبداعية الفرصة مرة أخرى كي تتجلى بقيمتها وجمالها لأن بنيتها بنية إبداعية، ولأن غاياتها غايات نبيلة مشدودة للبعد الإنساني من جهة، وإلى أسئلة الفلسفة الرَّصينة من جهة أخرى التي هي أشبه بالمرآة التي تبدي جمال النصوص وهيئاتها مثلما تبدي جوهرها وقوتها لأن الإبداع قوة نهارية وإن حاوفتها الظلمة ومن الجهات كلها.

Hasanhamid55@yahoo.com