ترميم الزمان الإبداعي مكانياً.. التراث الحلبي هوية.. لا مجرد قدود أو أبنية نتغنى بجمالها!!
“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة
حلب واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، وهذا يعني أن آثار الإنسان حاضرة فيها من خلال الأدوات الفنية والمادية المتضمنة لحياته ومعتقداته وأفكاره وعلاقاته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتجارية. ويبدو البعد الزماني العميق متجذراً في البعد المكاني العميق مشكّلاً روحاً فسيفسائية خاصة بالمدينة التي تعطرك بصيرورتها الثقافية وحركيتها الإبداعية، كلما مررت بشوارعها القديمة، لتجد ذاكرتها مشعة، سواء من قلعتها المعتبرة من أكبر وأقدم قلاع العالم، والتي يرجع تاريخ هضبتها إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، أو من مبانيها الدينية، لا سيما الجامع الأموي، ومكتبته وما تكتنزه من مخطوطات نادرة، وتأخذك أسواقها المفعمة بالحيوية، مثل سوق المدينة، إلى عوالم متنوعة بين 37 سوقاً، بينما تعيدك خاناتها العريقة البالغ عددها 15 خاناً، مثل خان الشونة وخان الصابون وخان الوزير، إلى زمان لا يريد أن يستقيل من الحياة، بل يتضافر مع لحظاتها المتواصلة، مطوّباً المدينة كنقطة مركزية لطريق الحرير الواصل بين الصين والهند وأوروبا، وكمحور مضيء لتطور الثقافات وحوار الحضارات القديمة والحديثة.
الحضارة مضاد للإرهاب
وكان أن اعتبرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو” حلب القديمة من التراث الإنساني العالمي، إضافة لعدة مواقع في سورية بينها المدن المنسية شمال غرب حلب وتضم مئات المواقع الأثرية ومنها قلعة سمعان. كما أشارت اليونسكو إلى أن أكثر من 30% من تراثنا قد تم تخريبه وتدميره وتفجيره ونهبه على يد الجماعات الإرهابية.
بالطبع، تألمت الحجارة الأثرية كثيراً كما الهواء والغيوم والماء والتربة والشجر والبشر، لكنها تشبثت بأرضها، وجذورها، وفروعها، لذلك “لم”، و”لن”، يستسلم الجامع الأموي بحلب، ولا ساحة فرحات، ولا مجسمات المفكرين والفلاسفة والشعراء مثل المعري، وأبي تمام، والفراتي، ولا المتاحف المختلفة، ولا الزقاقات العتيقة، ولا ساحة الحطب، ولا حي الجديدة، ولا الأبواب المتنوعة، من أبواب الدور إلى أبواب حلب/ وعددها 12 باباً، ومنها باب النصر.. أوَ ليست جميعها مثل قلعة حلب تزداد شموخاً مع تقدم الزمن؟ ولذلك، تساءلت “البعث الأسبوعية”: كيف ستستعيد حلب تراثها الثقافي والفني والسياحي؟ وهل يكفي الترميم وإعادة البناء والتأهيل والمتحف الافتراضي التكنولوجي؟ وما دور الجمعيات والمراكز الثقافية والجهات الإدارية والمؤسسات على اختلافها والمجتمع الحلبي بكافة فئاته، وما دور المثقف في عملية الترميم وإعادة البناء؟
سراب الحداثة
التراث الثقافي الحلبي بشقيه المادي والمعنوي تراث غني تركت فيه كل الحضارات المتعاقبة بصماتها، لكنه في زمن العولمة يشهد تحدياً كبيراً.. هكذا بدأ الدكتور المهندس صخر علبي، مدير الآثار والمتاحف بحلب، مردفاً إن ثورة المعلومات جاءت لتزيد الطين بلة، ثم جاء الإرهاب متعدد الجنسيات مستهدفاً هوية هذا التراث لتكتمل معه حلقة الخطر المحدق بالتراث. ويضيف: توسعت حلب خلال نصف القرن الأخير بتسارع فاق عجلة سرعتها، وازداد عدد سكانها ازدياداً هائلاً، وفي غمرة هذا التسارع تبدلت القيم والمفاهيم والعادات والتقاليد وانعكس ذلك سلباً على تراث المدينة.. وفي لهاثها للالتحاق بسراب الحداثة، نسيت المدينة تراثها، وأقفرت المدينة القديمة، الحاضنة بشكل رئيس لتراثها، من سكانها الأصليين، وباءت الجهود المخلصة للحفاظ على الحياة التقليدية فيها بالفشل، ثم جاءت الحرب الملعونة الأخيرة لتدمر بشكل ممنهج أهم أوابدها التاريخية؛ واليوم – يكمل د. علبي – تتنادى كل الجهات المعنية لإعادة إعمار المدينة، وبشكل خاص المدينة القديمة، رغبة في الحفاظ على تراثها وإعادتها للحياة.. هي مهمة شاقة في ظل الظروف الاقتصادية القاسية والتبدلات الاجتماعية الهائلة، ولا يغيب عن البال الجهل عموماً بأهمية هذا التراث، والجهل كما هو معروف عدو الإنسان الأول. ويوضح: هناك جهود حثيثة من الحكومة تصب في الحفاظ على التراث كمشروع ترميم الجامع الأموي، وهناك مشروع طموح لإعادة تأهيل أسواق المدينة ومشاريع أخرى، أما عن المجتمع فهو منصرف إجمالاً لإعادة تأهيل الأبنية الدينية أولاً. وكاشَفنا بشفافية: أما المثقفون فدورهم خجول، ولا يكاد يبين، واليونسكو محكومة بالإملاءات الدولية ومحظور عليها التعامل مع الحكومة السورية.
التراث هوية وليس قدوداً وأطعمة!!
يختم د. علبي: في ظل الهجمة الشرسة التي تستهدف شعبنا في هويته، لا بد من الالتفات إلى التراث ومقاربته مقاربة مختلفة، وتلك مهمة الجميع بلا استثناء: المؤسسات الحكومية والجمعيات الأهلية. ورغم الإشادة بما يقدمه الجميع ضمن الإمكانيات المتاحة، لكن لا بد من إعادة النظر للتراث على أنه هوية، وليس مجرد قدود أو أطعمة حلبية، ولا أبنية تراثية نتغنى بجمالها وننأى عن سكناها.. لكن يبدو لي أن مسألة الهوية بحد ذاتها أضحت، في غمار ما تمخضت عنه الحرب القذرة، إشكالية وتحتاج إلى مراجعة وتنوير، وهي مسألة يفترض أن تحظى بأهمية كبيرة في الأمد المنظور.
كفاءات وتمويل وتنسيق
الباحث والكاتب محمد قجة، الرئيس الفخري لجمعية العاديات بحلب، حدد أربعة عناصر تحتاجها عملية ترميم المناطق الأثرية والتاريخية في سورية، وهي التصور الإداري الذي يتخذ القرارات المناسبة ويضعها بين يدي من يمكنه تنفيذها، ومن ثم الكفاءات الفنية البشرية علمياً ومهنياً بالتنسيق مع الجانب الإداري، وثالثاً التمويل اللازم، سواء محلياً أو من خلال تبرعات خارجية، وأخيراً التنسيق الكامل مع منظمة اليونسكو التي تسجل الأماكن الأثرية والتاريخية والتراثية وتراقب عملية الترميم.. هكذا – يتابع – نجد كيف تطفو الصعوبات على السطح من حيث عدم توفر التمويل اللازم، وعدم كفاية الخبرات الفنية، مما يجعل القرار الإداري عاجزاً عن وضع تصور لمراحل العمل والانسجام الكامل بين العناصر الأربعة المذكورة. ويستدرك قجة: لكن ذلك يجب أن لا يحجب الإرادة الواسعة المصممة في اجتياز عملية الترميم بما يعيد لآثارنا مكانتها العلمية والتاريخية والسياحية على مستوى العالم.
حملة وطنية
بدوره، أكد الكاتب الباحث د. نذير جعفر على تعدُّد التراث الثقافي، وتنوع الحضارات التي تعاقبت على مدينة حلب، لافتاً إلى أن هذا التراث يضم في جانبه المادي نحو 518 موقعاً أثرياً تعرضت إلى أضرار جسيمة، ومن أبرزها قلعة حلب والجامع الأموي وكاتدرائية الأربعين شهيداً وأسواق المدينة القديمة في مجملها، بما فيها خان الشونة وخان الوزير، وهما معلمان أثريان بارزان، وعشرات المباني والمساجد والكنائس والمزارات والمدارس والتكايا والخانات في الأحياء القديمة، مثل أغيور والماوردي وباب الحديد والعقبة ومحيط القلعة.. كما تعرَّض الجانب المعنوي من هذا التراث إلى الحرائق والتخريب الذي طال المكتبة الوقفية والمراكز الثقافية والمكتبات الخاصة والعامة، ومتحف التقاليد الشعبية، والفولكلور الشعبي، وكلها تشكل منارات للفكر والآداب والعلوم، وعمقاً روحياً ووجدانياً لأبناء حلب خاصة وللسوريين بل للإنسانية عامة.
وأضاف د. جعفر: من هنا تنبع ضرورة صيانة وترميم وإعادة إحياء التراث الثقافي المادي واللامادي لمدينة حلب لما يشكله من دور رئيس في الحفاظ على الهوية الوطنية وتعميق الانتماء وحس المواطنة وثقافة الحوار والسلم الاجتماعي، ونبذ التطرف والتكفير والاحتراب الداخلي تحت أي مسوّغ كان.
تتويج النصر ثقافياً
وأكد جعفر إن الحفاظ على التراث الثقافي مسؤولية وطنية تعني الجميع، لا فئة محددة، بدءاً من المنظمات الشعبية والجامعات، مروراً بالكتاب والصحافيين والحقوقيين، وانتهاء بمديرية المتاحف والآثار وطواقمها الإدارية والميدانية، لحصر الأضرار وإعادة الإعمار والترميم بالتعاون مع المجتمع الأهلي والمنظمات الدولية على أسس علمية تضمن الحفاظ على تراثنا لأنه، في المحصلة، صورتنا الحضارية وهويتنا والفضاء الجاذب للسياحة التي تعد مصدراً مهماً من مصادر الدخل القومي لوطننا.