دراساتصحيفة البعث

حرب الناتو الخاطفة باتجاه الشرق

سمر سامي السمارة

عندما أعلنت الولايات المتحدة أنها ستخفّض عدد قواتها المتمركزة في ألمانيا، تأمل كثيرون أن يكون ذلك بداية لخفض شامل للقوات الأمريكية في أوروبا وتخفيف التوترات بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وتوقع كثيرون أنه سيتمّ نقل هذه القوات إلى مكان آخر في أوروبا، وعلى الأرجح نحو الشرق على حدود روسيا.

وبالفعل أكد وزير الخارجية مايك بومبيو أنه تمّ توقيع اتفاقية لنقل القوات الأمريكية من ألمانيا إلى بولندا، موضحاً أنه يتمركز حالياً نحو 4500 جندي أمريكي في بولندا، ولكن سيتمّ إضافة نحو 1000 جندي آخر بموجب قرار ثنائي تمّ الإعلان عنه العام الفائت.

وفي الشهر الماضي، تماشياً مع مطالبة ترامب بخفض عدد القوات في ألمانيا، أعلن البنتاغون أنه سيتمّ سحب نحو 12000 جندي من ألمانيا مع انتقال نحو 5600 جندي إلى دول أخرى في أوروبا، بما في ذلك بولندا. وفي هذا الصدد يقول المقال المنشور في اسوشيتد برس إن بومبيو استخدم زيارته إلى أوروبا لتحذير الديمقراطيات الشابة في المنطقة من التهديدات التي تشكّلها روسيا والصين، لكن ماذا يمكن أن تكون هذه التهديدات؟!.

يمكن القول: إنه تمّ إنشاء حلف الناتو واستخدامه للحفاظ على توازن القوى خلال الحرب الباردة، ولكن منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكّكه في نهاية المطاف في عام 1991، لم يواصل الناتو توسيع عضويته بما في ذلك الدول التي تقع مباشرة على حدود روسيا فحسب، بل شارك في حروب عدوانية امتدت من إفريقيا إلى آسيا.

كان الحلف أداة للحفاظ على توازن القوى بين الشرق والغرب، لكنه تحوّل فيما بعد إلى هراوة لتهديد الجميع، فمن ليبيا إلى العراق إلى سورية إلى أفغانستان، يستمر أعضاء “الناتو” بتدمير الدول الواحدة تلو الأخرى منذ مطلع القرن وما زالوا يفعلون ذلك حتى يومنا هذا.

وقد نقلت مقالة لمجلة “ذي أتلانتيك” في العام 2011 بعنوان “الربيع العربي: فيروس  سيهاجم موسكو وبكين” عن السيناتور الأمريكي مارك أودال قوله: “إن أولئك الذين اعتقدوا أن الربيع العربي كان ثورة عضوية من داخل هذه البلدان كانوا مخطئين -وأن الغرب وحلف شمال الأطلسي على وجه الخصوص كانا المحركين الرئيسيين لما وصلت إليه ليبيا- كما أن الدول الغربية هي من ساعد في التصعيد في مصر، مضيفاً، وبشكل استفزازي، سورية إلى تلك القائمة أيضاً”.

من دون شك، وحتى وفقاً للصحف الأمريكية مثل نيويورك تايمز، كان “الربيع العربي” بكل تأكيد “نتاجاً للتصميم الغربي”، فمن المؤكد أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على وجه الخصوص كانتا القوتين المحركتين الرئيسيتين للنتائج التي وصلت إليها ليبيا، مع استخدام الحلف للقوة العسكرية المباشرة للإطاحة بالحكومة الليبية. لذلك يمكننا أن نرى رقعة الدمار الكامل التي خلّفها هذا “المنتج الغربي”، والاضطرابات التي استعرت شمال إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى.

بعد تهديد روسيا والصين بأن هذا “المنتج الغربي” كان يستهدفهم في نهاية المطاف، قام السيناتور جون ماكين في النهاية بجولة في كومة الأنقاض التي كانت في السابق ليبيا، إضافة إلى زيارة أطراف ميادين القتال في سورية، والسؤال هنا: هل يمكن لأي شخص أن يفصل بين التهديدات التي وجّهها ماكين ضد موسكو وبكين، والدمار البادي للعيان الناجم عن العدوان العسكري الغربي على طول أطراف روسيا والصين؟.

التاريخ يعيد نفسه

في بداية الحرب العالمية الثانية، استخدمت ألمانيا النازية شكلاً هجومياً من أشكال الحرب ضد روسيا يُعرف باسم الحرب الخاطفة. في البداية حشدت قواتها على طول الحدود مع روسيا ثم حاولت توجيه ضربة سريعة ومركزة تستهدف موسكو لسحق القوات الروسية قبل أن تتمكّن من التعبئة والردّ، لكن هذه الحرب الخاطفة فشلت، بينما نجحت ضد فرنسا وبلجيكا وبولندا.

الآن يبدو الأمر وكأنه نسخة بطيئة الحركة من الحرب الخاطفة التي شنّتها ألمانيا النازية، ولكن بدلاً من محاولة حرث روسيا قبل حلول الشتاء كما حاول النازيون في حزيران 1941، فإنها بدلاً من ذلك تقوم بتشريح حلفاء روسيا في الخارج بشكل منهجي، وخنقها على طول حدودها، وتقويضها ومحاولة عزلها اقتصادياً مع محاولة إثارة النوع نفسه من التخريب السياسي الذي أطلقه “الربيع العربي” في عام 2011 داخل حدود روسيا.

شعور وجودي

تواجه روسيا الآن زيادة في عدد القوات الأمريكية الموجودة على حدودها، ونقل ألف جندي أمريكي إضافي إلى بولندا يعني أنهم سيحلقون فوق كالينينغراد الروسية الواقعة على الحدود الشمالية لبولندا، لكن يبقى أن نرى أين ستتمركز القوات التي ستغادر ألمانيا؟. يكاد يكون من المؤكد أنها لن تعود إلى الولايات المتحدة، وبدلاً من ذلك، ستتجه شرقاً، ما يعني أن الولايات المتحدة والناتو يحاولان تصوير روسيا على أنها “الشرير” في هذه القصة لتعزيز القوات على طول حدودها الغربية.

لقد عبرت الولايات المتحدة محيطاً وقارة لتجد نفسها على أعتاب روسيا، وهي القوات نفسها التي دمّرت العديد من الدول وخاصة حلفاء الاتحاد السوفييتي السابق، وإلا فكيف يجب أن تفسّر روسيا كل هذا؟ وكيف يجب أن يفسر باقي العالم هذا؟.

ترفضُ وكالة اسوشيتد برس وغيرها من وسائل الإعلام الغربية ذكر الحقيقة بأن وجود حلف الناتو منذ سقوط الاتحاد السوفييتي كان حرباً خاطفة بطيئة الحركة لعدة عقود وتريليونات الدولارات التي دمّرت دولاً بأكملها، وهي اليوم تفعل الشيء نفسه. وحتى عندما يزعم وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أن روسيا والصين تشكّلان “تهديدات” للعالم، تظل هناك حقيقة لا مفرّ منها، وهي أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي هما الجهتان الوحيدتان في القرن الحادي والعشرين اللتان تغزوان وتدمّران الدول.