مجلة البعث الأسبوعية

“شرق جديد” في بلاد الشام.. ساسة واشنطن لديهم ذاكرة قصيرة أو لا يعرفون تاريخ المنطقة!!

“البعث الأسبوعية” ــ سمر سامي السمارة

عقدت القمة الثلاثية الثالثة بين مصر والأردن والعراق في نهاية شهر آب الماضي في الأردن. وكانت القمة الأولى عقدت في القاهرة، في آذار من العام الفائت، فيما عقدت القمة الثانية في نيويورك، خلال الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة، في أيلول 2019، وقد مثل العراق رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في القمتين الأوليين، وخلفه مصطفى الكاظمي في القمة الأخيرة.

وبحسب وسائل الإعلام الأمريكية، وقبل أيام قليلة من القمة الأخيرة، كان رئيس الوزراء العراقي ضيفاً على الرئيس الأمريكي ترامب الذي أكد أن “الزيارة، وهي جزء من الحوار الاستراتيجي المستمر بين العراق والولايات المتحدة، كانت ناجحة”. وخلال المحادثات، كشفت واشنطن عن خطتها لمواصلة إخضاع الشرق الأوسط، لكن، وبما أن الولايات المتحدة لا تتمتع بسمعة طيبة بين معظم الدول العربية، فقد قررت أن تعهد للعراق بتنفيذ خططها.

بعد ذلك مباشرة، وفي مقابلة مع “الواشنطن بوست”، اقترح رئيس الوزراء العراقي إنشاء “شرق أوسط جديد”، أو “شرق جديد” في بلاد الشام، يشمل مصر. وأوضح أن الفكرة كانت أن تعمل البلدان الثلاثة معاً لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط بأكمله، وإيجاد حل سياسي للصراعات الدائرة في المنطقة، كما ستتعاون الكتلة الجديدة وتنسق خططها لتحقيق الازدهار الاقتصادي لشعوب المنطقة.

في إطار هذا المشروع، جرى تقديم اقتراح بأن يقوم العراق ببناء خط أنابيب نفط من البصرة إلى مصر عبر الأردن، على أن تحصل كل من القاهرة وعمان على النفط، فيما ستحصل بغداد، بالمقابل، على الكهرباء التي تصل إليها حالياً من إيران. ونظراً لرغبة الإدارة الأمريكية في تقليص ما تسميه “نفوذ” طهران في العراق، سيتم استبعاد سورية، حليفة إيران، من المشروع. علاوة على ذلك – وهذا ما لاحظته وسائل الإعلام العراقية – فشل الكاظمي، لسبب ما، في الرد على وجهة النظر التي عبر عنها جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق و”صقر” السياسة الخارجية الأمريكية، بأن “انهيار العراق ” كان مفيداً، وأن الولايات المتحدة يجب أن تعترف باستقلال “أكراد” شمال العراق كأمر واقع. وبحسب بولتون، فإن على الولايات المتحدة أن تتبنى مقاربة استراتيجية لـما أسماه “القضية الكردية” في البلدان الأخرى المتضررة – سورية وإيران وتركيا – لأن ذلك سيؤدي في النهاية إلى نتيجة إيجابية للغاية لأمريكا.. بالنسبة لبولتون وشركاه، فإن الركائز الأساسية لسياستهم في المنطقة هي ما يسمى “المسألة الكردية”، ومبدأ “فرق تسد”.

وليست فكرة التعاون الثلاثي بين مصر والأردن والعراق بجديدة. فقبل أكثر من 30 عاماً، قامت الدول الثلاث، إضافة إلى اليمن، بتأسيس ما سمي – آنذاك – “مجلس التعاون العربي”، حيث وقّعت اتفاقيات مختلفة تتعلق بالجوانب الاقتصادية والتجارية والاجتماعية والثقافية. ومع ذلك، كانت تلك التجربة قصيرة الأمد، فبعد أقل من عام على قيامها، في 2 آب 1990، غزا العراق الكويت، وتم التخلي عن المجلس المشكل حديثاً.

قبل توقيع معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل، في 24 تشرين الأول 1994، كان العراق والأردن وسورية في وضع تحالف بين دول في حالة حرب مع إسرائيل، وكان الهدف وضع مؤشرات أداء تكون قابلة للقياس لتحقيق التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل. لقد أريد لهذه “الجبهة” أن تكون بمثابة رادع ضد النزعة التوسعية الإسرائيلية. وعلى الرغم من أن مصر وقعت، في 26 آذار 1979، على أول “معاهدة سلام” بين دولة عربية وإسرائيل، وفّر هذا التحالف، إلى حد ما، الأمن والاستقرار للدول الثلاث لفترة وجيزة، حتى تم تقويضه تماماً جراء الغزو العراقي للكويت.

بالطبع، تغير الوضع الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وفي تلك البلدان على وجه الخصوص، بشكل كبير منذ ذلك الحين. ونظراً للمتاعب التي يواجهانها، لا تبدو سورية والعراق في وضع يسمح لهما بإحياء الاقتراح القديم. ومع ذلك، ونظراً لانعدام الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، فإن فكرة “الشرق الجديد” تبدو جذابة للغاية. لقد فتحت فترة الفوضى الطويلة – خاصة بعد غزو الولايات المتحدة للعراق في آذار 2003، و”الربيع العربي”، وما ترتب عليه من نتائج كارثية، الباب للتدخل الغربي في بلاد الشام والرافدين.

اقترح العديد من المراقبين السياسيين أنه إذا تمكنت الدول الثلاث، التي أطلقت آلية التعاون الثلاثي، من العمل بجدية لإعادة تأسيس الكتلة، فإن أنشطتها المشتركة قد تؤتي ثمارها عاجلاً أم آجلاً. وكما قال رئيس الوزراء العراقي، فإن مثل هذه الكتلة ستعمل لصالح السلام والأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وستكون بمثابة ثقل موازن لأي تدخل في الشرق الأوسط والعراق. ويُنظر إلى التحالف على أنه هيئة دفاعية، وليس موجهاً ضد أي دولة، أو مجموعة دول في المنطقة. وهذا أمر طبيعي تماماً، لأن فكرة مثل هذه الكتلة تركز على المستقبل، وليس على الماضي. وبحسب وكالة مهر الإيرانية للأنباء، فإن العالم يشهد في الواقع ظهوراً بطيئاً وتدريجياً لشرق أوسط آخر.. لمنطقة ستعيش في ظل “السلام الأمريكي”، وبمجرد أن تصبح إسرائيل الشريك الرئيسي في هذا السلام تنسحب الولايات المتحدة من المنطقة. كانت الإدارة الأمريكية وراء الدفع بهذه الاستراتيجة، وهي استراتيجية ستبقى، وإن كان بوتيرة أبطأ بكثير، في حال أصبح جو بايدن، المرشح الديمقراطي، الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية في تشرين الثاني المقبل.

بمجرد أن تصبح الكتلة حقيقة واقعة، ستحمي مصالح أعضائها المؤسسين في شرق أوسط الغد، والتي قد تشهد “تعاوناً” وثيقاً بين دول الخليج وإسرائيل إن سارت على نهج الإمارات العربية المتحدة، وقامت بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل. لكن استراتيجية الولايات المتحدة المتمثلة بالتشجيع على إقامة تحالفات بين إسرائيل ودول الخليج ومصر والأردن ليست سهلة التنفيذ، على الأقل ليس بالطريقة التي تريدها الولايات المتحدة، إذ يجلب هذا التصور بعض المشاكل لرئيس الوزراء العراقي في الداخل، خاصة بين القوى السياسية الموالية لإيران، لكن مصطفى الكاظمي أكد لهم أن آراءه ليست موجهة ضد إيران، وأن العراق يريد الحفاظ على علاقات طيبة بكل جيرانه دون استثناء. وقد حذرت صحيفة “الأهرام” المصرية من الوضع قائلة: إن “الشرق الأوسط الجديد الناشئ سيكون حافلاً بالتيارات المتعارضة والتحالفات الغريبة التي يمكن أن تقوض أمن واستقرار القوى العربية الكبرى في حال رفضها أن تصبح شريكة دائمة للسلام الأمريكي في المنطقة. وإذا تم تشكيل تحالف ثلاثي، فسيصبح إلى حد ما حصناً منيعاً في وجه دولة معينة، أو مجموعة دول في الشرق الأوسط والخليج العربي تقودها الولايات المتحدة، والتي ستحاول تغيير النظام في المنطقة ليتوافق مع رؤاها ومصالحها القومية”.

لكن الساسة في واشنطن إما لديهم ذاكرة قصيرة أو أنهم لا يعرفون تاريخ المنطقة. وقد يكون من المفيد تذكيرهم كيف حاولت الولايات المتحدة وبريطانيا في الخمسينيات إنشاء أنواع مختلفة من التحالفات والكتل العسكرية بمساعدة مجموعات محلية مختلفة. وفيما يتعلق بثورة 1952، في مصر، ولتعزيز نفوذها في البلدان المجاورة، في عام 1955، بادرت المملكة المتحدة، التي اعتبرت نفسها زعيمة المنطقة، إلى إنشاء حلف المعاهدة المركزية (حلف السنتو)، والتي ضمت إلى جانب بريطانيا كلاً من تركيا والعراق وإيران وباكستان. ولم تكن الولايات المتحدة طرفاً رسمياً في هذه المنظمة، لكنها لعبت دوراً نشطاً في إنشاء العديد من هياكلها، وقدمت المساعدة العسكرية للدول المشاركة. وبعد ثورة 1958، ترك العراق الكتلة. وفي العام 1979، بعد الثورة الإسلامية في إيران، لم تعد الكتلة التي تم تغيير اسمها إلى “حلف السينتو” في عام 1959 موجودة. وفي الواقع، ومن خلال إنشاء نظام الكتل، سعت الولايات المتحدة إلى ترسيخ هيمنتها على العالم، إذ تعود فكرة إنشاء نظام عالمي أمريكي إلى هذه الفترة.

في الحقيقة، إن إجبار إدارة ترامب الدول على تبني استراتيجيات اقتصادية جديدة – أو قديمة – ما هو إلا دليل على عزلتها المستمرة وسياساتها الأحادية الجانب. وتسعى إدارة ترامب، من خلال الإجراءات التي تتخذها، لتقريب العديد من الدول من بعضها البعض بهدف التحايل على القيود – المشار إليها بالعقوبات الأحادية – التي تفرضها “منارة الديمقراطية” على الدول، الواحدة تلو الأخرى. ولهذا السبب، ترفض دول في الشرق الأوسط، ودول أخرى، الاصطفاف إلى جانب واشنطن ذات السجل الحافل بالتخلي عن المعاهدات الدولية. نتيجة لذلك، أصبحت الولايات المتحدة الدولة المارقة الرائدة عالمياً، وباتت تشكل تهديداً كبيراً للاستقرار والسلام العالميين. وقد تجلى تجاهل واشنطن الكامل للقانون الدولي والتعايش السلمي ليس فقط في المواجهة مع إيران وروسيا والصين، ولكن أيضاً في استهزائها وتهديداتها اليومية بفرض عقوبات على العديد من أعضاء المجتمع الدولي، بما في ذلك حلفائها الأوروبيين. الأمر الذي سيقود الولايات المتحدة إلى مزيد من العزلة، خاصة وقد أدرك شركاء واشنطن، وحلفاؤها في المقدمة، أن الولايات المتحدة لا تهتم بمصالحهم وقيمهم.