مجلة البعث الأسبوعية

خرائط الغاز والتاريخ.. أزمة تتفاقم والاتحاد الأوروبي في ورطة

“البعث الأسبوعية” ــ علي اليوسف

لم يعد بإمكان القوتين البحريتين الأوروبيتين، فرنسا وبريطانيا، أن تعتبران المتوسط بحرهما، أي “بحرنا” (Mare Nostrum)، كما سمي باللاتينية أيام الإمبراطورية الرومانية، حين هزم “الحلف المقدس” – تحالف جمع بين قوى أوروبية بينها إسبانيا وعدة مدن إيطالية – الأسطول العثماني في معركة ليبانت في 1571.

اليوم، تستحضر الحجج التاريخية والقانونية بقوة في المواجهة الجيوسياسية والجيو اقتصادية الدائرة في شرق المتوسط، حيث لم يخف نظام أردوغان رفضه لمفاعيل معاهدة لوزان التي وقعتها تركيا عام 1923، وتنازلت بموجبها عن “جزر قريبة من تركيا”، وأن من فاوض في لوزان ظلم تركيا، حسب تعبيره.

في المقابل، يستند منطق الطرف الآخر، والذي يضم اليونان وقبرص وفرنسا وإيطاليا، إلى مرجعيات كالقانون الدولي، وقانون البحار، والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، ومنها طبعاً معاهدة لوزان، باعتبارها القاعدة التي يجب أن تحكم سلوك الدول.

لكن ما يتجاهله منطق كلا الطرفين هو أن موازين القوى الدولية التي أنتجت هذه المرجعيات جميعها دخلت في مرحلة تغير متسارع، وخاصةً في العقدين الماضيين؛ بل وإن الهيمنة الغربية الأورو – أمريكية، التي ترسخت بعد الحربين العالميتين، آخذة بالتراجع المستمر أمام صعود قوة ونفوذ القوى غير الغربية الكبرى والمتوسطة، كالصين وروسيا وإيران والهند وجنوب أفريقيا، وهذا ما أكدته تقارير البنتاغون عندما وصفت الصين وروسيا بالقوى “الساعية إلى إعادة النظر بأسس وقواعد النظام الدولي الذي شيده الغرب”.

 

حقول الغاز البحري

ولا شك أن للاعتبارات الاقتصادية في حقول الغاز البحري وزناً حاسماً بين دوافع جميع الأطراف المتصارعة على غاز المتوسط، وكذلك للحسابات السياسية الداخلية المتصلة بالسعي لكسب المزيد من الشعبية بعدما أظهرت جائحة كورونا تراجعاً ملحوظاً في معدلاتها. والمؤكد اليوم هو أن غالبية واضحة في أوساط النخب والرأي العام لدى جميع المتصارعين، بما فيها تلك المعارضة لتوجهات الأحزاب الحاكمة في بلادها، تدعم حكوماتها في المواجهة الدائرة في شرق المتوسط لهدف وحيد هو تحقيق الأطماع الاقتصادية والمالية، وليس السياسية أو غيرها من إعادة تموضع واصطفافات عسكري.

وإذا كانت خلفيات الموقفين القبرصي واليوناني مفهومة لأنها ترتبط بالدفاع عن مصالحهما المباشرة وحصتهما من حقول الغاز، بمعزل عن الجدال التاريخي حول الحدود البحرية بينهما وبين تركيا، فإن ما يستحق التفكير والتحليل هو خلفيات الموقفين الفرنسي والإيطالي. ذلك أن مساهمة شركات البلدين في مشاريع التنقيب عن الغاز واستخراجه في قبرص واليونان، وحقيقة أن حقول غاز شرق المتوسط ستتيح لبلدان القارة العجوز فرصة تنويع مصادرها، والحد من اعتمادها على الغاز الروسي، لا تكفي وحدها لسبر غور هذه الخلفيات، فالغاز الذي سيستخرج من حقول خاضعة للسيادة التركية سيباع قسم كبير منه لأوروبا أيضاً.

وهنا “مربط الفرس”، أي أن العامل الأشد استفزازاً للأطراف الأوروبية المعنية هو تجرؤ تركيا على إعادة النظر بالحدود البحرية التي كانت رسمتها موازين القوى، في ذاك الوقت، لمصلحة فرنسا وبريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث فرضت الأساطيل الأوروبية احترامها، وخاصة الفرنسية والبريطانية الأكثر حضوراً في المتوسط، إلى جانب الأمريكية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

كانت حجة القوى الغربية للسيطرة الاستراتيجية على المتوسط هي ضمان احترام القانون الدولي وقانون البحار وحرية الملاحة والحدود البحرية للدول المشاطئة، لكن، في الواقع، كانت أهم مرتكزاتها هي الهيمنة الغربية على بلدان الضفتين الجنوبية والشرقية، ومحاولة قوة إقليمية صاعدة كتركيا تعديل هذا الواقع – ولو جزئياً – تقع في صلب المجابهة الراهنة.

صحيح أن الولايات المتحدة تتخذ موقفاً محايداً تجاه المجابهة الحالية، وأنها تحرص على مراعاة تركيا لأسباب تتعلق برغبتها الحدّ من تقاربها المتزايد مع روسيا في السنوات الأخيرة، إلا أنها رسالة تحمل في طياتها الكثير الكثير للشركاء الأوروبيين بأن يتأقلموا مع هذا التطور.

 

اللاعبون الجدد

في تشرين الثاني 2019، وقعت تركيا مذكرة تفاهم مع حكومة الوفاق الليبية المعترف بها من الأمم المتحدة، برئاسة فايز السراج. وبموجب نص المذكرة، تحصل تركيا على الحقوق الحصرية للمنطقة الاقتصادية في شرق المتوسط، وبالتحديد المنطقة الممتدة من جزيرة كريت حتى قبرص. احتجت حكومتا أثينا ونيقوسيا، ووقف الاتحاد الأوروبي إلى جانبهما. صحيح أن الوضع القانوني هنا معقد جداً، ولكن في النهاية لا يمكن لليبيا وتركيا أن تعقدا اتفاقاً يضر مصالح أطراف أخرى، بدون موافقة دولية. في مقابل ذلك، اتفقت الحكومة اليونانية مع مصر على التعاون للاستفادة من مخزونات الغاز في شرق المتوسط، وهو اتفاق يتعارض بشكل مباشر مع اتفاقية تركيا وليبيا. كما ظهر تحالف آخر يضم اليونان وقبرص و”إسرائيل” ومصر وإيطاليا والأردن والفلسطينيين، في منتدى الغاز في شرق المتوسط، والذي يحظى بدعم الولايات المتحدة، ويستبعد تركيا مرة أخرى، والتي وصفت المجموعة بأنها نادٍ مضاد لتركيا. ومؤخراً انضمت الإمارات المتحدة لدعم المجموعة، لأن الإمارات في صراع مع تركيا لأسباب أيديولوجية.

وأمام هذه التركيبات الدولية، تجد تركيا نفسها معزولة بدون حلفاء رغم أن الوساطات الأوروبية لم تنقطع، ليس بسبب غاز المتوسط فقط بل لأن بروكسل تجد نفسها في موقف صعب، فهي من ناحية تتعامل منذ سنوات بحذر ورفق شديدين مع تركيا، بسبب التهديدات التركية المتكررة بإنهاء الاتفاق بين الطرفين حول اللاجئين، وفتح الحدود لعبور اللاجئين نحو أوروبا. ومن ناحية ثانية فإن بروكسل ملتزمة أمام العضوين لديها: اليونان وقبرص.

 

دوافع سياسية وشخصية ومصالح

لقد أصبحت منطقة شرق المتوسط محط أنظار العديد من الدول، ومن ضمنها بلدان من خارج المنطقة، بعدما أظهرت الاكتشافات أنها تحوي العديد من المناطق الغنية بالغاز الطبيعي، والحديث عن إنشاء خط للغاز سمي “خط غاز شرق المتوسط” للتصدير لأوروبا. وتبدو أهداف أطراف الصراع في شرق المتوسط معقدة، حيث يتداخل فيها الاقتصادي بالجغرافي، والتاريخي بالشخصي، وخلف التحالفات المعروفة توجد مواقف لكثير من الدول تختلف عما هو معلن.

على سبيل المثال، تحاول فرنسا أن تقدم نفسها كوصية على المنطقة، وتقوم بتجييش الاتحاد الأوروبي لتبني سياستها، رغم أن فرنسا ليست جزءاً من شرق المتوسط، بل إن إيطاليا أقرب إلى المنطقة، ولها مصالح أكبر، ومواقفها من أزمات المنطقة مختلفة تماماً عن فرنسا.

لكن ما يحرك فرنسا في شرق المتوسط دوافع عدة متناقضة.. مثلاً، ليس لشركات فرنسا حتى الآن مصالح مباشرة كبرى معروفة في “مشروع غاز شرق المتوسط”، فيما الشركات الإيطالية تقوم بدور أكبر، على عكس ليبيا التي تتعارض مصالح الشركات الفرنسية فيها بشكل واضح مع الإيطالية، وهو ما يدفع باريس إلى دعم الجنرال خليفة حفتر.

أما الخلاف في شرق المتوسط، فيبدو أن أبرز دوافع باريس هو العداء الشخصي من الرئيس إيمانويل ماكرون لنظيره التركي أردوغان، متضافراً مع العداء التقليدي للعلمانية الفرنسية المتطرفة ضد الإسلام السياسي، حتى لو أن بديل هذا الإسلام هو التطرف الديني المسلح. ولكن الأهم في دوافع فرنسا أن باريس عززت في عهد ماكرون توجهاً لا تخجل منه بأنها صديقة المستبدين العرب، وهو توصيف أصبح شائعاً في الإعلام الغربي، فمثلما كان ساركوزي صديقاً للزعيم الليبي معمر القذافي، فإن ماكرون لا يخفي صداقته لآل سعود وللنظام الإماراتي.

وأمام هذه المعطيات والتناقضات، فإننا لاشك نعيش في عالم سرعة التغيير فيه غير مسبوقة تاريخياً، عالم يتغير في كل مكان بوتيرة تتسارع يوماً بعد يوم. لذلك يمثل الموقف الحالي بالنسبة لجميع الأطراف في شرق المتوسط مأزقاً يضرها جميعاً، لأن الصراع سيؤذي مصالح الجميع بالنسبة للطاقة، وهو ما يجعل الاستثمار في المنطقة أعلى تكلفة على شركات الطاقة. ومع أن الجميع لا يريد نشوب حرب، إلا أن التصعيد المتبادل قد يخرج عن السيطرة، وحتى لو لم يخرج عن السيطرة فإنه يرفع التكلفة على الجميع عبر تأخير الاستفادة من موارد المنطقة، وتوتير العلاقة بين شعوبها.